الثلاثاء، 14 أبريل 2015

محمود البدوى ـ قصص قصيرة ـ قصص مصرية ـ قصص عربية ـ الأدب المصرى ـ الأدب العربى ـ زوجة الصياد



  
نشرت جميع أعمال محمود البدوى فى العنوان




زوجة الصياد



فى احدى الليــالى القمرية جلس الشيخ عبد القادر شيخ قرية " الجـناين " .. يتحدث مع الفلاحـين فى مندرته عن الحرب وعن فحوى اشارة تليفونية وردت الليلة من المركز ..
وكانت الحرب بعيدة فى أوربا وفى مرتفعات الأناضول ولكن نارها امتدت إلى مدن مصر وقراها .. وأخذت السلطة الإنجليزية تستولى على المحصولات والماشية .. وعلى الرجال أنفسهم لتلقى بهم وراء خطوط القتال ..
وكان العمد والمشايخ يقومون بعملية جمع الأنفار والجمال والخيل .. فى القرى .. حسب أهوائهم الشخصية ودون حسيب أو رقيب .. فكل رجل كجواد .. يمكن أن يرسل إلى السلطة .. مادام ليس به عوج ..
فجمعوا من الفلاحين أحسن مالديهم من جمال وخيل .. ولما بدءوا بالأنفار .. نزل الرعب فى قلوب الناس .. فلم تكن الحرب تعنيهم فى شىء .. فلماذا يرسلون ابناءهم إلى هناك ..
وكان الشيخ عبد القادر نائب العمدة والمتصرف فى شئون القرية لأن العمدة مريض منذ زمن طويل .. وأقعده المرض عن العمل والحركة ..
وكان الشيخ عبد القادر رجلا جم النشاط كثير الحركة فى حوالى الأربعين من عمره يلبس زعبوطا أسمر على قطنية فاتحة ذات خيوط رفيعة .. ويضع فى قدميه حذاء يستعمله كمركوب عندما يتوضأ .. وكان طويلا أسمر يحنى جزعه قبل الأوان .. وبوجنتيه آثار نمش خفيف من جدرى قديم ..
وكان ضيق العينين بيضاوى الوجه .. يفتل شاربه الطويل .. ويصغر عمامته ..
وقد استطاع بمكره ودهائه أن يستولى على قلب العمدة ويستأثر وحده بالسلطان فى القرية مع أن فيها أربعة من مشايخ البلد خلافه .. ومنذ اشتعلت الحرب وهو يشيع الإشاعات فى القرية عن مطالب السلطة ويرسل الخفراء .. وراء الأنفار .. وتأتى جموع الفلاحين حول المندرة .. وعلى أكتافهم الفئوس والمدارى .. كان الخفراء يسوقونهم من الغيطان .. ومن العزب البعيدة ..
وكان الشيخ عبد القادر يختار منهم من يشاء ويدخله فى الحجز إلى أن يحين الحين لترحيله إلى المركز ..
وتقدم عجوز يتوكأ على عصا طويلة حتى اقترب من مجلس الشيخ عبد القادر وسلم ثم قال :
ـ بعثت فى طلبى ..؟
ـ نعم يا شيخ عبد الحفيظ من أجل ابنك سرحان ..
ـ ماله ..؟
ـ مطلوب فى السلطة ..
ـ إبنى أنا ..؟
وارتعش فم العجوز ..
ـ أجل .. ابنك أنت ..
ـ ابنى الوحيد .. الذى يعولنى ويزرع لى الفدان ..
ـ هذا أمر السلطة ..
ـ ألا تستطيع تأجيله .. يا شيخ عبد القادر ..؟ اعتمل معروفا ..
ـ التأجيل غير مستطاع .. لأن اسمه فى الكشف ..
ـ إعمل معروف خليه للمرة القادمة .. وقد تنتهى الحرب ..
ـ لاتحاول عبثا روح دور على ولدك وهاته ..
وظل الشيخ عبد الحفيظ واقفا لحظات ثم جلس متربعا بجوار الحائط .. حتى وجد الشيخ عبد القادر وحيدا فى مجلسه ..
فعاد يتوسل إليه :
ـ اعمل معروف خليه للمرة القادمة ..
ـ عندك فلوس ..؟
ـ أبيع البقرة ..
ـ هات مائة جنيه تدفعها للضابط الإنجليزى وعشرة لكاتب الأنفار ..
 ـ حاضر ..
ويخرج عبد الحفيظ من المندرة ليأتى بالنقود .. وكان الذى يدفع الرشوة للشيخ عبد القادر يبقى فى القرية .. ويستبدله بمن لايدفع .. والفقراء الذين يعجزون عن الدفع وليس لهم شفيع يذهبون عادة إلى " بر الشام " حيث يدور القتال ..
وحتى المرأة التى لم تكن تملك من متاع الدنيا سوى نعجة .. كان لايتركها الشيخ عبد القادر .. كانت تحمل له الفروج إلى بيته .. وتطوى المسكينة ورقة بجنيه فى طرحتها لتقديمها مع الفروج له ..
ولما طالت سنوات الحرب .. اشتد جشع الشيخ عبد القادر ونهمه فى جمع المال .. وكانت السلطة تشحن المراكب من موردة القرية محملة بالغلال والتبن .. ويقف هو بجوار الوزان .. ليأخذ من كل فلاح يتقدم بجوال جزءا من ثمنه .. فكثرت فى يده الفلوس وأخذ ينميها ويجعل الألف آلاف ..
وكان أهل القرية يسمعون عن موت بعض من رحلوا إلى السلطة هناك فى الغربة .. فيزداد خوفهم من السفر .. ويضاعفون الرشوة لشيخ البلد ..
ولما سمعوا أنه أرسل إلى السلطة فرس الحاج اسماعيل .. وهو ثرى مرهوب الجانب .. زاد خوفهم منه .. وأصبحوا يلبون كل طلباته .. ويفدون أولادهم ومواشيهم بالأموال ..
وكان يجمع هذه الأموال .. يضعها فى كيس كبير .. يطويه فى الدولاب عند احدى زوجاته ..
وكان متزوجا من امرأتين من أجمل نساء القرية .. وجعل كل واحدة .. فى بيت .. الأولى قريبة من المندرة .. والثانية فى غرب البلد ..
وكانت الأخيرة هى الجديدة .. وأكثر صبا ونضارة من القديمة ..
ولكن الشيخ عبد القادر لم يكن يشبع من النساء .. كانت إذا استهوته أية فلاحة وهى راجعة من الغيط أو السوق .. أدخلها الطاحونة .. أو البستان .. وكان يرتكب الفاحشة دون أن يفكر فى الوزر ..
كانت هذه الأشياء طبيعية عنده .. كطعامه .. وشرابه .. وكانت تستهويه الفتيات .. وتحرك أحاسيسه ..
وكان من عادته أن يصلى المغرب على شاطىء النيل .. يخرج ليتمشى هناك ومعه أحد الخفراء وزميل له من مشايخ البلد ويتوضأ ثم يصلى على الرمال قريبا من الماء .. فلمح .. ذات مساء امرأة مليحة .. تدفع سوالفها .. وتهم بحمل البلاص .. وظل يتبعها ببصره حتى توارت فى الدرب ..
ورآها مرة ثانية .. وبدت فى هذه المرة أكثر جمالا وفتنة .. وتبعها ببصره حتى عرف بيتها .. وعرف أنها زوجة خليفة الصياد وهى عروس من بنى حسن لمحها خفية على الشاطىء هناك .. فهام بها وتزوجها وحملها فى زورقه ..
وكان عبد القادر يراها لأول مرة فى القرية .. فاهتز قلبه .. كانت جديدة وتختلف عن نساء القرية بطول قامتها .. ونعومة بشرتها .. وثوبها الأزرق الفضفاض .. ذى الدكن .. والعينين الخضراوين الواسعتين .. وأخذ الشيخ عبد القادر بجمالها .. وأخذ يروح ويجىء أمام بيت الشابة المنعزل فى شرق القرية ويفكر فى حيلة يصل بها إلى قلبها ..
وكان كلما حادثها وجد أنها تقصر فى الكلام .. لخجلها ..
وتركها عدة أيام .. ثم اتجه إلى بيتها فى عصر يوم رخى النسمات ..
وقف فى ساحة الدار يرقب بهية وقد شمرت عن ساقيها وبدا خلخالها الفضى فى رجليها .. وقد انشغلت بصب الماء على الطين هناك ..
فسألها :
ـ ماذا تصنعين ..؟
ـ أبنى عشة جديدة للدجاج ..
ـ أراه يملأ البيت .. حسبتك تكتفين بالسمك ..
ـ السمك .. طعام خليفة .. أما أنا فأحب تربية الدجاج ..
ـ وأين ذهب خليفة ..؟
ـ يسعى وراء رزقه .. أحسبه نشر شباكه .. وخرج بالزورق فى عرض الماء ..
ووقف يتأمل قامتها الطويلة .. وشعرها المتدلى فى سوالف وراء ظهرها ..
وقال بصوت خافت :
ـ أنه مطلوب ..
ـ مطلوب ..؟
ـ مطلوب للسلطة وقد جئت أحمل إليه الخبر بنفسى حتى لايزعجكم الخفير ..
واصفر وجهها والقت الطين من يدها .. ونظرت إليه بذعر ..
كان ثوبها الأزرق ذو الطيات واسعا ولكن بدا منه صدرها المكتنز .. ونهداها واستدارة كتفها ..
ـ هل تأسفين إن رحل زوجك ..؟
ـ أننى أموت من الغم .. اننى أشعر بالغربة فى هذه القرية .. وأنا معه .. فكيف يكون حالى إذا رحل ..
ـ إنها المقادير .. ولاحيلة لنا .. أمر ترحيله مختوم ..
ـ مختوم ..؟
أجل مختوم ..
ـ متى ..؟
ـ غدا .. سيرحل مع الأنفار .. كان مطلوبا .. من مدة وأنا كنت أؤجله فى كل مرة وأشفق عليك .. لأنك مازلت عروسا .. أما الآن فلا أستطيع التأجيل ..
واصفر وجهها ..
ـ ألا يستطيع العمدة .. ولا الحاج إسماعيل أن يفعلا شيئا ..؟
ـ أبدا ولاحتى المأمور .. ولا المدير .. أنها السلطة ..
واضطربت شفتاها .. وارتعشت .. وقال وهو ينظر إلى فتحة الثوب على جيدها ..
ـ نستطيع أن نفعل شيئا آخر ..
ـ ماذا ..؟
سألت برجفة من أحس ببارقة الأمل بعد عذاب اليأس ..
ـ نستبدله فى المركز .. يذهب بدله شخص آخر .. من بلدة أخرى ..
ـ اعمل معروف .. اصنع هذا .. وما تريده خذه ..
ـ أنا أريد شيئا واحدا ..
ونظر إلى عينيها ..
وسألته برجفة :
ـ ماذا ..؟
ـ أنت تعرفين ..
ـ ........
ـ انك باهرة الجمال .. ومذ رأيتك .. وأنا أفكر فيك ..
كانت واقفة منكسة رأسها .. وظهرها إلى ناحيتة ولسعتها الكلمات التى تفوه بها الرجل نزلت عليها كالسياط .. ورجع يقول :
ـ وما سيحدث لن يحس به إنسان .. وسيمضى بمنتهى السهولة .. فى ساعة ساكنة كهذه .. وصمتت بهية .. ولم تقل شيئا .. ظلت جامدة بلا حراك وسحابة القلق تغشى عينيها ..   

وقالت بصعوبة :
ـ إنه مريض .. دعه شهرا واحدا ..
ـ لاأستطيع .. وإذا رجع الليلة لاتحدثيه بما قلته لك .. وإذا حدثتيه وهرب .. سآتى به حتى لو اختفى فى بطن الحوت .. وأنت تعرفين ..
وابتعد الشيخ عبد القادر بخطوات ثابته وغاب فى الدرب ..
وحطت بهية الطين .. وأخذت تعمل فى شرود ..
وجاء زوجها بعد أن طلعت الشمس كان يبدو هادئا .. لايدرى مايخبئه له القدر ولم تقل له بهية شيئا عن السلطة والترحيلة ..
وبعد أن فرغ من طعامه مسح فمه .. استلقى على الحصير .. فرقدت زوجته بجواره ..
وكانت بهية .. ناعمة الملمس .. بيضاء ..
شعرت بهية بيد خليفة تلمسها .. فابتسمت .. كانت تحب لمساته .. كلما عاد من الخارج ..
ولكنه كان تعبا هذا الصباح من عمله فى الصيد طول الليل ويشعر بالمرض .. فنام بسرعة بمجرد أن وضع جنبه على الأرض ..
وكانت زوجته تحبه .. وتفكر فى العذاب الذى ستلاقيه لو رحل عنها .. وسافر إلى الشام .. وربما مات هناك .. فيتركها إلى الترمل والفقر .. والوحدة .. كان هذا الخاطر يعذبها فى الواقع ويدمر أعصابها .. وظلت إلى الظهر نائمة تتقلب على مثل الشوك ..
وفى العصر لم تحدث زوجها وهو خارج إلى الصيد بما سمعته من شيخ البلد .. طوت الأمر عنه ..
وفى المغرب ذهبت إلى النيل .. وكانت تحمل جرتها .. وكانت ساهمة وتشعر بثقل الجرة على رأسها المشحون بالقلق والعذاب ..
ورأت الشيخ عبد القادر .. هناك ولكنه لم يكلمها ..
وفى الليلة التالية دخل عليها البيت وكان يعرف أنها وحدها .. وطواها بين ذراعيه على حصير فى المدخل .. بعد أن رد الباب .. وجد نفسه أمام جسم رقيق ناعم يحتاج إلى حشية أو مرتبة تحته فدخل بها القاعة .. وكان يأتى إليها فى بيتها بعد أن يخرج زوجها إلى الصيد ..
وتكرر اللقاء .. وكلما التقى بها ازداد وجدا وهياما ..
وكان يشترى لها الأقراط الذهب والأساور .. فتخفيها فى صندوق بعيدا عن عيون زوجها .. ويريها أوراق البنكنوت الكبيرة حتى حبب لها المال .. والثراء .. وفى كل ليلة يحدثها عن الثروة التى جمعها ..
ووجدت بهية نفسها تتعلق بالرجل .. تنتظر الساعة التى يقدم فيها .. أكثر مما تترقب زوجها .. وتحولت إليه .. وأهملت زوجها ..وشباكه وصيده ..
وكانت تتحسس بأناملها قرط الذهب والأساور .. فى داخل الصندوق .. ثم تخرجها فى غياب زوجها .. وتلبسها .. وتحس بفرحة وبانتقالها من حال إلى حال .. أنها الآن تتحلى بالحلى مثل نفيسة هانم زوجة الحاج اسماعيل وسعدية زوجة عبد الرحمن بك .. ولكنها تلبس هذه الأشياء فى الخفاء .. ولا تستطيع أن تظهر بها فى العيان .. أمام زوجها .. أن وجوده أصبح يضايقها وكرهته .. لأن وجوده يلصقها بالفقر .. ويحرمها متعة شهية ..
وذات ليلة حدثها عبد القادر وهو يضمها إلى صدره :
ـ لقد رأيت خليفة الليلة .. وهو يقترب بالزورق من الشاطىء .. ويخيل إلىَّ أنه ينظر إلىَّ نظرة غريبة .. كأنه يعرف ما بيننا من علاقة ..
ـ إنه لايعرف شيئا على الإطلاق ..
ـ فكرت جديا أن أبعده ..
وصمتت بهية .. لم تقلق .. واستطرد الشيخ عبد القادر ..
ـ أأقتله ..؟
قال هذا وكأنه يحدث نفسه ..
ولم تجب بهية .. وإن كان السؤال نفسه لم يجعلها تجزع .. وفكرة القتل لم تفزعها .. أن زوجها الذى كانت تخاف عليه من لمسة الحرير أصبح لايعنيها الآن فى شىء على الاطلاق حتى أن قتله لايحزنها ..
وقال الشيخ عبد القادر :
ـ إنى أفعل أى شىء إلا أن أقتل بشرا .. ان القتل جريمة .. لايغفرها الله أبدا .. لأن الموت والحياة من صنع الله وحده .. فهو الذى يهبنا الحياة ويأخذها منا .. فكيف يتدخل مخلوق فى عمل الخالق .. فماذا أفعل به إذن يا بهية .. لتكونى لى وحدى ..  
ـ أتركه .. ربما يموت موتة طبيعية .. إنه لايزال مريضا ..
ـ لا .. سأرسله مع الأنفار إلى السلطة ..
وبعد أسبوع واحد رحل خليفة .. مع الأنفار إلى الشام .. وبعد خمسة شهور عرفت القرية خبر موته ..
ولبست بهية ملابس الحداد عدة شهور ثم خلعتها وتزوجت عبد القادر وأسكنها بيتا جديدا خصيصا لها ..
وعاشا فى سعادة .. وفى شوق المحبين .. وحمل إلى دولابها أوراق البنكنوت من كل الأنواع فى الكيس .. ربطة كبيرة زاهية .. لامعة .. بألوانها الجميلة .. وقال لها وهو يزهو :
ـ كل هذا المال سيكون لك وحدك يا بهية ..
وسرت لأنه حمل المال إلى بيتها .. لكنها قالت له :
ـ إنى لا أريد من الحياة إلا عافيتك ..
ـ ولكن المال .. لك وحدك .. وسأظل أجمعه .. من أجلك ..
وظل يجمع المال ويلفه .. ثم يطويه فى داخل الكيس .. داخل الدولاب .. فرض الضريبة على كل شىء .. ولم يترك فلاحا ولا فلاحة فى القرية لم يأخذ منها رشوة ..
وكان كلما أضاف إلى أوراق البنكنوت شيئا جديدا .. يفرح وتتملكه نشوة من يكنز المال وكان يود أن يشترى بهذه الأموال عزبة أو عمارة كبيرة فى البندر .. ولكنه وجد هذه الأشياء مرتفعة الثمن فى أيام الحرب فلما انتهت الحرب .. كان وجود الأوراق فى البيت قد أصبح جزءا من كيانه .. وعز عليه أن يعطيها شخصا آخر مهما عوضه عنها .. بالفدادين والعمارات ..
أصبح ينظر إليها بفرحة .. فتركها فى الدولاب فى مكانها .. ومرت الأيام والسنون وهو يتحسسها بيده من الخارج ويشمها ..
وكان يفتح الكيس وينظر إلى الأوراق فتبرق عيناه ثم يطويها .. دون أن يلمسها ..
وكبرت بهية .. وتعدت سن الشباب .. وسن الجمال .. وأخذ جسمها يذبل .. وعاشت مع الرجل الذى لم يفعل فى حياته حسنة واحدة لإنسان ولا للمجتمع الذى يعيش فيه .. وهى تحس بكل أنانيته وجشعه وحبه لكنز المال لكنه برغم طباعه هذه كانت تعلق آمالها على شىء كبير .. أن هذه الأموال كلها ستصبح بعد موته ملكا لها وحدها .. من دون أقربائه جميعا .. وستأخذها وتذهب بها إلى بلدها ..
وعلى هذا الأمل عاشت ..
وفى ذات يوم عرضت عليه صفقة رابحة .. أخبروه أن عبد الرحمن بك .. سيبيع عزبته الشرقية بكل ما فيها من مساكن وآلات وحظائر ولا يطلب أكثر من سبعة آلاف من الجنيهات .. ووجدها فرصة لاتعوض ..
فأسرع إلى قصر عبد الرحمن بك وقابله واتفق معه على دفع نصف المبلغ مقدما .. والباقى بعد اتمام اجراءات نقل الملكية ..
وجرى إلى البيت فرحا ليأتى له بالنقود .. ويخبر بهية بالقصر الذى سينتقلان إليه ..
وأخرج الكيس من الدولاب ..
وفتح الكيس .. والمرأة واقفة خلفه .. ووضع يده فيه وأخرج اللفة الكبيرة .. وفك الربطة .. وعندما أمسك بأوراق البنكنوت ارتعشت يده .. ثم تقلصت وتصلب جسمه .. وزاغت عيناه .. فإن الأوراق ظلت محتفظة برسوماتها .. وألوانها .. ولكن نسيجها تحول إلى عنكبوت ..
وحرك يده المتشنجة فوجد كل شىء تحول فى غمضة عين إلى تراب ..
وظل جالسا فى مكانه .. ينظر إلى التراب الذى كنزه .. وزوجته بهية تنظر مثله إلى التراب .. إلى جسم الرجل المشلول .. الذى أخذها من الصياد المسكين ولم يفعل فى حياته حسنة واحدة لإنسان ..
وتمتمت بشىء ثم راحت فى شبه غيبوبة .. عبر السنين .. عندما كان الرجل الآخر يقرع بابها مع ندى الفجر .. يحمل رزق اليوم .. فى السلة الصغيرة .. وعلى شفتيه الرضا والقناعة ..
وأخذتها الذكريات وهى واقفة فى مكانها جامدة ..
وكانت تود أن تبلل خديها بعبرة ولكن استعصى عليها حتى البكاء ..
وظلت عينا الرجل الجالس بلا حراك تحدق فيها دون فهم حتى أحس بلسعة حادة سال منها دمه .. وردته اللسعة إلى رشده .. وإلى الحياة ..
وكان العنكبوت الذى لسعه يتحدى هناك .. فى هدوء بجانب الأوراق التى خرج منها كأنه مافعل شيئا ..
ــــــــــــــــــــــــ
نشرت القصة فى مجلة آخر ساعة بالعدد رقم 1393 فى5/7/1961وأعيد نشرها فى كتاب " زوجة الصياد " سنة 1961
ــــــــــــــــــــــــ
 



















قطار الســـاعة 8


     وصلت هدى إلى رصيف المحطة قبل أن يتحرك القطار بأربع دقائق .. وكانت تهرول .. وزوجها يسرع الخطا أمامها ويبحث لها من نوافذ العربات عن مكان فى الدرجة الثانية ..
     ودخلا فى جوف عربة من العربات الخلفية .. وهما لايستطيعان معرفة طريقهما .. فقد كانت الدواوين كلها مغلقة ومظلمة لم تكن هناك إضاءة اطلاقا فى الممرات .. ووجد الديوان المخصص للسيدات مشغولا .. وممتلئا إلى السقف بالحقائب والقفف .. وما يجاوزه من الدواوين قد امتلأ بالركاب ..
     وأخيرا عثر على سيدة جالسة فى ركن من أحد الدواوين .. وكان هناك رجل يجلس أمامها فى الركن المقابل ..
     فقال عصام بسرعة لزوجته ..
     ـ اجلسى هنا مع الست ..
     فجلست هدى فى الحال .. فقد تقطعت أنفاسها وهى تجرى وحيرها الظلام الذى وجدته فى القطار ..
     ومن خلال الضوء المنبعث من خارج القطار .. هيأت لنفسها مكانا بجانب النافذة الغربية مباشرة .. وجعلت حقيبتها على الرف المقابل أمام بصرها مباشرة لأن فيها عدا ما تتحلى به من الجواهر كل ما تملكه من الحلى كعروس ..
     وقالت لزوجها :
     ـ أنزل أنت .. الجرس ضرب .. من بدرى ..
     فسلم عليها وهو يقول ..
     ـ عندما تصلى .. ابعثى لى برقية .. وطمنينى على الحالة .. إن شاء الله ستجدينها بخير ..
     ـ إن شاء الله انزل .. القطر تحرك ..
     ووجدت الدموع تتحير فى عينيها بعد أن تركها زوجها وحمدت الله أن الظلام أخفى عبراتها عن الجالسين معها ..
     وكانت هذه الحالة قد لازمتها منذ وصلتها البرقية فى الغروب تنبئها بأن والدتها مريضة وفى حالة خطرة .. فمن هذه الساعة وهى لاتكاد تمسك عبراتها .. وبعد أن نزل زوجها على الرصيف .. وتحرك القطار وخرج من نطاق المحطة .. ظلت تبكى وتطلق العنان لكل عواطفها المحبوسة ولم تكن تدرى .. أتبكى على فراق زوجها .. ولأنها اضطرت لأن تسافر وحدها .. لأول مرة منذ تزوجها .. أم لأنها كانت تتوقع الفاجعة هناك فى البلد .. وتجد الصراخ قد انطلق من جنبات المنـزل ..
     وقد منعتها العبرات من أن تنظر إلى من يجلس معها فى الديوان .. وأخيرا مسحت عينيها .. ووجدت نفسها قد استراحت بعد البكاء .. وأحست بالهدوء وبالاستعداد لتلقى النبأ الذى كان منذ لحظات يفزعها ونظرت إلى السيدة التى بجوارها .. فوجدتها تنظر إليها فى حنان وخجلت من أن تكون قد بصرت بها وهى تبكى وأخذت السيدتان تتبادلان الحديث .. فى الوقت الذى ظهر فيه النور فى سقف الديوان .. وظهرت الكراسى الجلدية القديمة القذرة .. والغبار على زجاج النوافذ .. وفى أرض العربة .. وكانت المصابيح الثلاث الصغيرة ترسل نورا خافتا لايستطيع المرء معه أن يقرأ رقم تذكرة السفر ..
     ولكن هدى استطاعت فى هذه اللحظة أن تتبين وجه جارتها .. وكانت سيدة فى الأربعين من عمرها .. سمراء .. وترتدى معطفا أسود .. كما استطاعت أن تحدد ملامح الرجل الجالس أمامها من الناحية الأخرى فى الديوان نفسه وكان طويل الوجه ذا شارب قصير وعينين خضراوين .. ويبدو من جلسته أنه متوسط الطول ولم يتعد الخامسة والثلاثين من عمره .. وكان يضع على رجليه بطانية طواها عند صدره ..    
     وكانت السيجارة لاتفارق فمه .. وعيناه تتحركان فى كل اتجاه فى هذا المكان الضيق وتستقران أخيرا عليها .. وخيل إلى هدى أنهما تنفذان من خلال ثوبها ولذلك ضمت معطفها على عنقها وغطت الجواهر التى فى صدرها وضمت ساقيها وجلست منكمشة ..
     وبعد أن ترك القطار مدينة الجيزة .. عاد الظلام مرة أخرى إلى العربة وانطفأت المصابيح التى كانت مضيئة فى السقف .. وخيم ظلام دامس .. وتبادلت السيدتان الابتسام .. وكان الرجل صامتا .. ولا يحول وجهه فى الظلام عنهما ..
     وليس من طبيعة المرأة الصمت ولكن وجود الرجل معهما فى مكان واحد وفى هذا الحيز الضيق جعل حديثهما قليلا ومقيدا .. وليس فيه اللذة التى تجدها الأنثى وهى تحادث أختها منطلقة من كل القيود ..
     وكان باب الديوان الزجاجى مغلقا على الدوام .. لأن البرد كان شديدا فى الخارج .. والتراب كان ينفذ من خلال الفتحات ويخز الوجوه كالإبر ..
     وكانت هدى تنظر دائما إلى ممر العربة من خلال النافذة الزجاجية الصغيرة الملاصقة للباب ..
     فتح الكمسارى الباب وفى يده مصباح بالبطارية .. ونظر فى التذاكر ثم خرقها .. وأغلق وراءه الباب .. وذهب .. ورأت هدى وراءه رجلا آخر ثم عسكريا ببدلة صفراء .. وبيده بندقية ..
     وبعد أن مر هؤلاء جميعا .. إلى العربة الملاصقة .. ظهر رجل فى الطرقة يلبس جلبابا لم تميز خطوطه ويضع على رأسه لبدة ونظر من خلال الزجاج إلى جوف الديوان ثم تابع طريقه ..
     وكانت السيدة الجالسة بجوارها قد أغلقت عينيها ونامت .. وبدا لهدى أن السيدة صائمة مثلها فلما امتلأت معدتها بالطعام أحست بالحاجة إلى النوم .. كمعظم الصائمين .. وكانت هدى تود أن تنام مثلها .. ولكنها كانت قلقة والخواطر السوداء تعصف برأسها .. وأسفت لأنها طاوعت زوجها وحملت نفسها كل حليها .. وجواهرها وهى مسافرة وحدها ..
     وكانت نظرتها دائما تحط على الرجل .. الجالس فى مكانه دون حركة والذى كان لايحول عينيه عنها إلا قليلا .. وكانت حركة القطار الرتيبة ودوى العجلات تحتها .. والظلام المخيم .. تساعدها على الاسترخاء .. وترك كل الخواطر التى فى رأسها .. ولكنها كانت تشد هذه الخواطر إلى بؤرة شعورها وتدور بها كالنحلة ..
     وكان عدم تعودها على السفر وحدها .. جعلها أكثر قلقا .. ولم تكن تدرى .. لماذا نظرها دواما يتركز على الممر ..
     ورأت الرجل اللابس الجلباب واللبدة يمر .. مرة أخرى بعد أن نظر من خلال الزجاج إلى الداخل وتبعه بعد قليل العسكرى ببندقيته ثم الكمسارى دون أن يدخل عليهم هذه المرة .. ثم شخص أو شخصان .. كانا يمرقان فى الظلام كالجرذان المذعورة قبل أن تتوضح هدى وجهيهما ..
     وصحت السيدة التى بجوارها .. والقطار يهدىء ويدخل المحطة .. وقالت ..
     ـ الواسطى ..؟
     ـ أظن ..
     ـ الظلام .. يمنعنا من الرؤية ..
     ـ لماذا يتركون العربات هكذا .. فى مثل هذه الكآبة ..؟
     ـ أنا لا أحب أن أسافر فى الليل .. فى قطارات الصعيد .. ولكننى اضطررت هذه المرة بالرغم عنى إلى السفر ليلا ..
     ـ وأنا مثلك يا سيدتى .. من السيدة التى تسافر فى الليل وحدها ..؟ إلا أن تكون مضطرة ..
    وارتجفت هدى .. ونظرت إلى الرجل وكان صامتا .. لايحب أن يخوض معهما فى الحديث .. وزادها هذا توجسا منه ..
     وعاد الصمت يخيم مرة أخرى ..
     وانطلق القطار بأقصى سرعته يطوى المدن والقرى طيا ويشق قلب الليل ثم أخذ يخفف من سرعته وهنا أخذت السيدة الجالسة بجوار هدى تستعد للنزول فسألتها هدى وقد شعرت بالخطر يقترب منها ..
     ـ حضرتك .. نازله فى بنى سويف ..؟
     ـ نعم ..
     ـ مع السلامة ..
     ـ الله يسلمك .. وأنت ..
     ـ رايحه ملوى ..
     ـ كلها ساعتين ..
     ـ أجل ..
     واغتصبت هدى ابتسامة شاحبة .. أخفت بها انفعالها وارتجاف قلبها وبعد أن نزلت السيدة .. وتحرك القطار من المحطة .. كانت هدى تود أن تبحث عن مكان فى ديوان السيدات ولكنها وجدت نفسها لاتستطيع أن تتحرك وظلت فى مكانها .. تنظر إلى الرجل الجالس معها فى الظلام والرجل ينظر إليها فى صمت ..
     ورأت أخيرا .. ألا تظهر أمامه بمظهر الضعيفة أو الخائفة منه لأن ذلك سيشجعه على المغامرة والطمع فيها .. ولكن غريزتها كانت تجعلها تخاف .. بعد أن أصبحت معه وحيدة فى مكان صغير ضيق والباب مغلق عليهما .. والنوافذ الخشبية مسدلة .. والإضاءة لا وجود لها فى الديوان أو فى الممر .. وانقطعت الأرجل التى كانت تعبر فى الظلام .. كالخفافيش .. وبدا لها أن من بقى من الركاب فى القطار قد نام .. لأنها ظلت ترقب كل حركة فى الممر وتتسمع كل حس .. ولكنها لم تر شخصا يمر .. أو ينفذ إلى العربة الملاصقة ..
     وظهر العسكرى .. ببندقيته وكان المتوقع أن يجعلها هذا تطمئن وتشعر بالأمان ولكن شكله أفزعها .. كان يخيفها أكثر من الرجل الجالس معها .. لأنه بدا لها جلفا .. وعلى وجهه الغباء المجسم ..
                                      ***     
     ونظرت للمرة الخمسين إلى الرجل الجالس أمامها .. وكان يدخن وعيناه المتقدتان تنفذان من خلال ثوبها .. وكان صاحيا طول الوقت وغاظها أنه كان هادئا ممتلكا زمام أعصابه .. وقد جعلها هذا الهدوء العجيب ترتجف أكثر وأكثر .. وحدق فيها نصف دقيقة كاملة .. ثم رأته يدفع بيده البطانية .. عن صدره .. وتصورت أنه سينقض عليها .. ويطوقها وربما مزق ملابسها .. وكانت فى هذه اللحظة تود أن تصرخ .. ولكنها وجدت صوتها لايطاوعها وأغلقت عينيها تنتظر الشىء المقدر .. ولما فتحتهما وجدت الرجل لايزال فى مكانه ..
     فنظرت إليه سادرة وفمها مفتوح .. ثم أغلقت عينيها مرة أخرى وكانت تود أن تبكى ..
     وراحت تسترجع فى ذاكرتها حوادث القطارات .. فلم تجد .. من بينها حادثة اغتصاب واحدة .. ولكنها تذكرت حوادث قرأتها فى الصحف عن أجسام تمزق بالسكاكين ثم تلقى تحت العجلات خلسة فى ظلام الليل ليتوهم الناس أن الذى مزقها هو القطار .. وعن نساء تخنق فى الظلام .. ثم توضع فى جوال وتلقى فى داخل القطار كما يلقى العفش .. وفى خلال دوامة أفكارها .. تذكرت حادثة شاب هجم على سيدة ليلا فى قطار المترو فارتجفت وهى تتذكر هذه الحادثة وعادت تنظر إلى الرجل .. وتفكر فى الطريقة التى ستعالج بها الموقف هل تسمح له بأن يقبلها .. ثم تخنقه فى أثناء هذه اللحظة وهل تستطيع خنقه حقا ..؟ انها ساذجة .. الأحسن أن تسمح له بالقبلة وبأن يعريها من ثوبها وفى لحظة انشغاله بهذا ستنقض عليه كالنمرة .. بأسنانها وأظافرها وتمزق جسمه ..
     لا .. إنه أقوى منها وسيتغلب عليها أخيرا ..
     والأحسن من هذا كله أن تصرخ .. ولا بد أن يسمعها أحد الركاب ويأتى لنجدتها ..
     وجف ريقها فى خلال هذه الخواطر .. وكف قلبها عن الخفقان ثم عاد يخفق ..
     ومن العجب أن خواطرها تركزت كلها فى الخوف على عفافها ونفسها ولم ينصرف قط إلى الجواهر التى تحملها .. مع أنها كانت فى أول الأمر تخشى على الجواهر أن تسرق ..
     وكان الرجل الجالس معها فى مكانه لم يغيره .. كان يدخن فى هدوء ..
     انه يعد نفسه للحظة الحاسمة ..
     أما هى فستقاوم .. وتقاوم .. إلى آخر نفس ..
     وقبل أن يدخل القطار فى محطة المنيا .. ظهر الرجل اللابس الجلباب واللبدة مرة أخرى فى الطرقة .. ووقف بجوار باب الديوان .. ونظر من النافذة إلى الداخل .. ثم فتح باب الديوان .. وتناول حقيبة من فوق الرف .. وأنزلها ووضعها فى الممر .. وظل فى مكانه ينظر من نافذة القطار الزجاجية إلى حدود المدينة ..
     ولما دخل القطار المحطة .. وتوقف .. رأته يحادث شابين آخرين كانا ينتظران على الرصيف ويلبسان الملابس البلدية .. وكان يقف معهما رجل يلبس بدلة أنيقة ..
     ودخل الشابان إلى جوف العربة ..
     ورأت هدى الشابين ينحنيان على الرجل الجالس معها فى العربة .. ويحملانه إلى الخارج ..
     وسقطت البطانية من فوق رجليه .. فى هذه اللحظة نظرت هدى إلى ساقيه المتدليتين دون حركة كشىء ميت .. واحمر وجهها ..
     وعندما خرجوا بالرجل من القطار .. فهمت الشىء الذى لم تكن تقدره أو تتوقعه أبدا .. وآلمها أنها لم تعرف حالته طول الوقت .. ولم تعاون عجزه عن الحركة بأية مساعدة قليلة منها ..
     ومسحت عبراتها مرة أخرى ..
==================================    
نشرت بمجلة الجيل المصرية فى 4|5|1959 وأعيد نشرها بمجموعة زوجة الصياد 1961لمحمود البدوى











الأفيال 


كان عبد الرازق أفندى موظفا قديما فى إحدى المصالح بمدينة القاهرة .. وكان بعد أن توظف بسنة واحدة يفكر فى الزواج ويرغب فى الأنثى ..
ولكنه ظل مترددا قلقا ولم ينفذ هذه الرغبة حتى بلغ الخمسين .. وانقلبت المتعة الحسية وأحلام الشباب وفورة العواطف التى لازمته والتى كانت تسيطر عليه وتدور فى ذهنه طوال هذه السنين .. إلى ضرورة تحتم وجود سيدة فى البيت لترعى شئونه وتمرضه وهو فى هذه السن .. ولا شىء أكثر من هذا ..
وحتى قبل أن ينفذ هذه الرغبة الواهنة التى تحولت بفعل الأيام إلى رماد .. فإنه ظل يسأل كل من يعرفه من أصحابه عن سن العروس المناسبة لرجل فى مثل سنه وحاله فلما عرف أن الأصلح له والأوفق ألا يكون الفارق فى السن كبيرا بينه وبين عروسه المختارة وأن لايتعدى سبع سنوات .. ولابأس من عشر ..
ترك السن وأخذ يسأل عن شىء آخر ..
هل يتزوج أرملة جربت الحياة أم عذراء لاتزال فى حياتها بكرا .. وهو الذى يعلمها كل التجارب .. وتكون فى يده كالعجينة فى يد المثال .. يصنع منها الشكل الذى يوافق رغباته وهواه ..
فلما خلص من هذا أخذ يفكر فى البيئة .. والأسرة والطبقة الاجتماعية .. والميراث .. والحم .. والحماة ..
***
وأخيرا تزوج فتاة فى العشرين ربيعا .. وذابت كل النصائح التى سمعها من أصحابه وتبخرت فوارق السن عندما رأى جمالها الفتان ..
وكانت الفتاة من أسرة متوسطة الحال مثله .. ولكنها لمست ضعفه وتردده من أول لقاء .. فطوته تحت جناحها وكانت تتدلل عليه فى زهو عجيب .. ومع أنه تزوج فعلا أمام المأذون .. ولكنه أخذ يسوف فى يوم " الدخلة " بحجة عدم وجود شقة مناسبة ولأن الصيف على الأبواب ورمضان مقبل وهو لايحب أن يمزج شهر العسل بشهر الصيام ..
وكانت الحجج كلها شكلية وواهية .. والواقع أنه منذ أن وقع على صيغة العقد أمام المأذون وهو يحس برجفة تزلزل كيانه .. فالشىء الذى كان يدور فى ذهنه كالخيال السابح أصبح حقيقة مجردة ..
وهو لم يتزوج أرملة فى مثل سنه .. ولا عانسا فى الأربعين وإنما تزوج فتاة فى العشرين تنفجر بالحيوية والشباب .. وتجمع كل مغريات الأنثى مع جمال نادر المثال .. ولذلك ظل القلق يعصف به وكان يجيد الفرنسية .. فرأى أن يتزود بالمعرفة النظرية .. فأخذ يشترى ما يجده فى المكاتب من كتب عن المرأة والزواج .. والجنس .. وكيف تسوس المرأة .. وكيف تتزوج وأنت شاب .. وأنت فوق الأربعين .. وكيف تعامل زوجتك .. وكيف تقضى شهر العسل ..
وكان كلما قرأ كتابا وجد معلوماته ناقصة وتحتاج إلى المزيد فيشترى كتابا آخر ..
ولهذا أخذ يؤخر يوم الزفاف ويؤجله ويتعلل بأسباب تافهة ..
***
وذات مساء قالت له العروس إن واحدا من أقاربها قد نقل إلى دمنهور وسيترك لهما شقته .. وهى مكونة من ثلاث غرف فسيحة .. بالدور الثانى والمنزل يقع فى شارع الخليج الناصرى بحى الفجالة ..
فأسقط فى يد عبد الرازق وفتح فمه ولم ينطق .. فالفجالة قريبة من المصلحة التى يعمل فيها وهى فى الوقت عينه قلب القاهرة والإنسان ينطلق منها إلى أى مكان ..
وايجار الشقة رخيص لايساوى غرفة من البيوت الجديدة على السطح فكيف يرفض هذا العرض أو يتعلل بسبب ..
***  
ونقل العفش من تاجر الأثاث إلى عش الزوجية السعيد ..
ومر الأسبوع الأول من الزواج والعريس قانع بالنزهة التى يقضيها فى الليل مع العروس فى السينما وفى الأسبوع الثانى أصبحت العروس تخرج وحدها .. لأن بعض فساتين الزفاف لاتزال عند الخياطة ..
وفى الأسبوع الثالث اكتشف عبد الرازق أن زوجته تهمله ولاتعنى بملابسه وطعامه .. فلا تقدم له حتى " فنجان " الشاى فى الصباح .. ولاتفكر فى افطاره .. وكان يخرج إلى عمله وهى لاتزال نائمة .. إذا أظهر لها الاستياء من تصرفاتها كانت تتدلل عليه وتغضب .. ثم تبكى وتسبه ..
ويظل حائرا ماذا يفعل .. وأحس بأن الزمام قد أفلت من يده تماما ..
ولم يجد فيما قرأه عن المرأة .. والزواج .. شيئا ينفعه اطلاقا وأصبح كعالم الاقتصاد الذى يحشو رأسه بالنظريات الاقتصادية فإذا جاء دور التطبيق منى بالفشل التام .. وأصبح موضع سخرية من الناس ..
وكان عبد الرازق كلما حاول أن يتقرب من زوجته .. بعدت عنه .. وإذا ضحك غضبت .. وإذا غضب ضحكت فى دلال ..
ومرت الأيام على هذا المنوال ..
***   
وفى عصر يوم .. حدث شىء رهيب فى الشارع .. فقد كانت الزوجة تتزين للخروج .. لأنها ذاهبة وحدها عند صاحبة لها ..
وكان الزوج لايزال فى فراشه .. عندما سمعا ضجة كبيرة فى الشارع وكان الحر قد جعل العروس تغلق مصراع النافذة الخشبية التى تطل على الطريق فلما سمعت الضجة جرت فى قميص نومها .. وفتحت المصراع وأطلت .. ونهض عبد الرازق من فراشه .. ووقف بجوارها فى النافذة المفتوحة .. ورأى الزوجان شيئا عجيبا رأيا ثلاثة أفيال تنحرف من شارع سراج الدين إلى شارع الخليج الناصرى وحولها وخلفها جموع من الناس .. تسد عين الشمس .. كان المنظر مثيرا بالنسبة للحى كله .. ونظر عبد الرازق .. فرأى الأفيال فى أول الشارع .. مخيفة وضخمة بأرجلها الكبيرة وأخفافها الضخمة .. وفى جانب منها هناك شىء مثير .. مثير جدا .. امرأة أجنبية فى قميص أصفر .. واسع وشفاف يكشف عن صدرها ونحرها .. وينحسر عن ساقيها ..
وكان شعرها الأحمر عاريا ويلمع تحت الأضواء .. وكانت عارية القدمين تماما وبيدها سوط صغير ..
وكان نظر الناس يتحول من الأفيال الضخمة إليها .. وهى على بعد متر واحد من أضخم فيل .. وكانت أشد من الأفيال نفسها إثارة ..
وكانت الجموع تتحرك كموج البحر العالى فى هذا الشارع الضيق .. وتارة تنحسر وتارة تقترب .. ومع اقترابها وبعدها يتدفق من فمها شىء .. كهدير البحر .. شىء لامعنى له بالألفاظ .. ولكنه يعبر تعبيرا بليغا عن المشهد البالغ الحد فى الاثارة ..
وكان الناظر إلى المرأة الأجنبية يفهم من حركاتها .. ولفتاتها ومشيتها أنها لاتعير بالها إلى هذه الجموع وأن الأفيال وحدها هى التى تعنيها .. فى هذا العالم الضيق ..
وكان كل شىء يمر بسلام .. والأفيال الثلاثة قد دارت فى زاوية الشارع الصغير وأخذت طريقها فى الشارع الصاعد ..
وكانت المرأة الأجنبية تهتز بثوبها فيرتفع وينخفض تبعا لهزات جسمها .. كأنها تدفع بهذه الحركة .. الأفيال إلى السير .. وكان الصياح يعلو .. من النوافذ ومن السطوح .. ومن الجموع الواقفة فى الطرق .. وفجأة حدث شىء رهيب .. فقد توقف الفيل الأول عن التقدم وأخذ يزحف .. بجنبه إلى الخلف .. وتبعته الأفيال الأخرى .. وخرج الفيل الذى فى الوسط واندفع إلى الرصيف .. وبدت السلاسل التى تربط هذه الأفيال ببعضها كأنها تتقصف .. وحدث هرج مخيف وطارت الجماهير .. على وجوهها واندفعت فى الأبواب التى على جانبى الشوارع .. وهزت المغلق منها بعنف وجنون .. وبعد نصف دقيقة كانت الجموع الغفيرة كأنما سقط من بينها قتيل .. فاقفر الشارع فى غمضة عين ..
***  
وبدت الأفيال بعد هذه الحركة أشد جموحا .. مما كانت وكان عبد الرازق فى النافذة يرقب .. هذا المنظر .. ونظره مستقر على المرأة التى تقود هذه الأفيال وحدها .. فى هذا الشارع الضيق الغريب عليها .. ووسط هذه الجماهير الهادرة .. ورآها تثبت فى مكانها ونظرت مبتسمة إلى هذه الحيوانات الجامحة وهى تقول :
هيى .. هيى ..
وتبع هذا حركة رتيبة بالقدمين العاريين .. وارتفع الثوب .. وانحسر .. عن الجسم العارى ..
ثم تبعت الابتسامة نظرة صارمة .. وتحرك السوط فى يدها .. وفرقع .. وضربت به أكبر فيل .. فاستقام فى الطريق .. وتبعه الفيلان الآخران .. وعاد الأمر إلى زمام المرأة .. ولمعت عيناها وتألق شعرها الأحمر فى ضوء الشمس .. وبدت هزة الجسم العارى .. مرة أخرى .. وبدت الجموع تتجمع حول تمثال رمسيس .. وعاد البحر الصخاب الموج يهدر من جديد ..
وظل عبد الرازق يرقب المرأة الأجنبية والأفيال حتى توارت عن بصره ..
وسألته زوجته :
ـ رايحه .. بيهم فين ..؟
ـ مسافرة ..
ـ وحيركبوا القطر ..إزاى ..؟
ـ زى .. ماجرتهم فى الشارع حتركبهم القطر .. والعربية والباخرة .. المسألة سهلة جدا .. بالنسبة لها ..
وصمتت زوجته وتعجبت .. وعادت إلى زينتها ..
وبعد أن ظلت ساعة كاملة تتزين .. ولبست أجمل ثيابها ..
سألها زوجها :
ـ إلى أين ..؟
ـ خارجة .. سأزور واحدة صاحبتى ..
ـ من النهاردة .. لاصاحبة ولاغيره .. ومفيش خروج إلا معى ..
ـ إزاى ..؟
ـ اهو كده ..
ـ أنا خارجه .. دلوقت .. وحاخرج بكره .. وبعد بكره .. وبعد بعده .. ومتقدرش تمنعنى .. 
ـ قلت مفيش خروج ..
واقترب منها ..
ـ سيبنى .. سيب ايدى ..
وكاد يعود إلى ضعفه ويستخذى لولا أنه تذكر المرأة الأخرى وهى تدرب الأفيال من لحظات برقة ممزوجة بالصرامة ..
فعاد عبد الرازق يشدد قبضة يده على ذراع زوجته وبعنف دفعها إلى الأرض ..
ووقعت .. ثم نهضت وهى تسبه .. فصفعها ..
فأخذت تبكى .. وتنشج ولكن من غير سباب ..
وبعد لحظات .. اقترب منها ومسح على ذراعيها بحنان .. وبرفق حملها إلى الفراش ..
*** 
وفى الصباح .. نهضت قبل زوجها .. وهى شاعرة بالنشاط والابتهاج .. وأسرعت إلى المطبخ لتعد له طعام الافطار ..
وعندما وضعت الاطباق على المائدة .. سمعت زوجها يمزق شيئا فى غرفته فلما أطلت .. لم تفهم .. فقد كان يمزق بعض كتب أمامه ويلقى بها فى سلة المهملات ..
وكانت هى الكتب الفرنسية التى اشتراها .. منذ شهور عن المرأة .. والزواج ..
ـــــــــــــــــــ 
نشرت القصة فى ص . الشعب بالعدد 1099 بتاريخ 7/6/1959 وأعيد نشرها فى كتاب " زوجة الصياد " سنة 1961
ـــــــــــــــــــ








































المفتش العام

ركبت قطار الديزل الذاهب إلى الاقصر .. وهو القطار الوحيد الذى يمكن أن يركبه آدمى فى خط الصعيد .. ولم يكن القطار مزدحما .. فلم أتقيد برقم المقعد وجلست فى أقصى العربة أرقب المسافرين فى المحطة حتى يتحرك القطار .. وقبل أن يتحرك .. رأيت سيدة تفتح الباب الصغير الذى خلف مقعدى وتدخل .. وكانت ممسكة بطفل وتدفع أمامها بطفل آخر .. وقالت وهى تلقى نظرة سريعة على المقاعد ..
ـ نقعد هنا ..
وجلست مع طفليها أمامى .. ولكن قبل أن تأخذ أنفاسها سمعت من يقول بصوت عال :
ـ اتفضلى هنا .. فى مكان السيدات .. العربة فاضية ..
فاحمر وجه السيدة خجلا فقد كان أهلها يودعونها على الرصيف ورأوها من النافذة وهى تجلس أمامى .. وتناولت الحقيبة الصغيرة من فوق الرف .. ومشت إلى مكان آخر ..
ونظرت إلى المتكلم فوجدته شابا .. طويلا .. يرتدى حلة زرقاء وعليه سيمات الوجاهة فأدركت أنه من موظفى المصلحة .. ولكن حركته هذه غاظتنى لأنه أخجل السيدة أمام أهلها .. وكان فى استطاعته أن ينبهها بلطف .. وفوق هذا فلا يوجد فى الديزل مكان خاص للسيدات وجلوس السيدة أمامى خير لى من راكب آخر ينفث الدخان فى وجهى .. وقد حدث ما كنت أخشاه فقد جلس راكب فى مكان السيدة .. ومعه فتاة صغيرة وكان ممسكا بالسيجارة .. وبدا لى أن أغير مقعدى ولكن نظرة الفتاة الصغيرة إلىَّ سمرتنى فى مكانى .. فقد كانت نظرة مودة معبرة عن أقصى درجات الحنان ..   
ونهض الرجل بعد أن تحرك القطار .. ليغلق زجاج النافذة ولم يعرف كيف يعالج المصراع فأعنته وشكرنى وقدم لى سيجارة فاعتذرت شاكرا .. وأخذنا نطالع صحف الصباح والفتاة وادعة صامته .. وكان السكون يخيم على هذا القسم من العربة .. وفجأة سمعت صوت الرجل اللابس البدلة الزرقاء يصيح :
ـ أنت يا فراش .. مافيش شنط كبيرة تنحط على الرفوف ..
وحمل الفراش الشنط الكبيرة والصغيرة .. ووضعها فى مدخل العربة واستسلم الركاب جميعا لهذا القرار ..
وبعد أن بارحنا الجيزة بنصف ساعة .. صفر القطار صفيرا متصلا وهو يهدىء من سرعته ثم توقف فجأة .. ونظر الركاب بعضهم إلى بعض وفتحوا النوافذ .. وأطلوا برءوسهم .. ولكن الرجل اللابس البدلة الزرقاء .. لم يكتف بالنظر من النافذة .. وإنما فتح الباب وهبط إلى الشريط .. وعلمنا من عامل البوفيه أن السائق توقف لأنه رأى شابا على الشريط ..
وقال العامل :
ـ ليه وقف .. مش عارف .. الديزل مايوقفش حتى لناظر المحطة .. كله بياكله ..!!
وسألت الفتاة الجالسة أمامى والدها :
ـ ياكل مين يا بابا ..؟
فأخذ يزيل عنها الخوف ويضمها إليه ويلاعبها .. وكانت تنظر إلىَّ تلك النظرة الآسرة .. فأخرجت من الحقيبة كتابا مصورا للأطفال .. وقطعة من الشيكولاته .. وقدمتهما لها فسرت .. وأخذت تأكل ..
وقال والدها .. إن والدتها تركتها لى بعد ولادتها بأيام .. ولذلك آخذها معى إلى كل مكان .. وأقرأ فى عينيها .. نظرة الحزن والخوف من المستقبل .. نظرة فيها المعانى التى تراها فى عيون الكبار .. وكأنها تقول لى .. لاتتركنى .. وحدى يا أبى .. لليتم وقسوة الحياة .. فانتفض بهذه النظرة وأحول وجهى عنها وأنا أغالب عواطفى ..
وكان الرجل متأثرا ويريد أن يتحدث .. ولما وجدنى أنظر من النافذة .. صمت .. ورأيت الرجل اللابس البدلة الزرقاء يصعد إلى العربة .. وقال بصوت جهورى :
ـ خلاص القطر ماشى ..
وفهمنا من ذلك أنه أعطى أوامره للسائق وتحرك القطار ..!
وقف القطار .. فى محطة بنى سويف .. وأطل لابس البدلة الزرقاء من النافذة .. وحيا .. معاون المحطة والناظر .. وسأل :
ـ نخلة أفندى .. فات عليكم فى 89 .. 80 أتأخر فى الواسطى .. علشان لسه ماصلحوش السكة ..
ولم أشغل نفسى به .. وإنما لاحظت أنه يتحدث إلى جميع من فى المحطة من الموظفين كأنه المشرف عليهم ..!!
وبعد أن تحرك القطار مر الكمسارى ليفتش على الركاب الجدد ووقف أمام سيدة معها طفلة .. يريد أن يقطع لها نصف تذكرة .. ورفضت السيدة .. وهنا تدخل الرجل اللابس البدلة الزرقاء .. وصاح :
ـ دى أكثر من أربع سنين لازم تدفع نصف تذكرة والغرامة كمان .. ودفعت السيدة مغتاظة .. واغتاظ جميع الركاب لأن الفتاة كانت صغيرة جدا ..
وفى محطة المنيا .. سأل اللابس البدلة الزرقاء .. عن ناظر المحطة والمعاون والبلوك 3 .. والسيمافور المفتوح .. والفلنكات التى تتغير عند الكيلو 273 ..
وخيل إلى ركاب القطار أن جميع من فى المحطة يعرف هذا الرجل فازداد خوفهم منه .. وكانوا يراعون النظام التام وتعليمات المصلحة بكل دقة ..!!
وأراد أحد الركاب أن يستريح ويتمدد .. فسمعت صوته الجهورى :
ـ دى مش عربية نوم .. والكرسى مخصص لاثنين ..
وازداد الركاب غيظا من كل هذه الأوامر .. ولعنوا الظروف التى جمعتهم مع المفتش العام فى قطار واحد .. وقبل أن نصل أسيوط .. سمعت صياحا فى القسم الثانى من العربة .. وكان يفصلنى عنه باب صغير .. ففتحت الباب .. ووجدت اللابس البدلة الزرقاء يتنازع مع أحد الركاب الجدد وكان الراكب محتدا وأخذ يصيح فى وجهه :

ـ وأنت صفتك إيه ..؟
ولأول مرة نسمع هذه الكلمة من راكب .. ووجدت وجه اللابس البدلة الزرقاء يصفر فجأة .. وتجمع حوله الركاب .. وأصابهم الذهول جميعا عندما سمعوا كمسارى القطار يسأله :
ـ من فضلك ورينى التذكرة ..!!
وفى محطة أسيوط .. جره العسكرى إلى الضابط القضائى ..
======================  
نشرت القصة فى ص . الأهرام بالعدد 25301 بتاريخ 8/3/1956 وأعيد نشرها فى كتاب " زوجة الصياد " سنة 1961
===================== 
































تيفود


جلس همام أفندى وزوجته الست منيرة فى مدخل بيتهما فى حى عابدين فى انتظار الطبيب .. فقد مرض ابنهما صلاح منذ سبعة أيام واشتدت به العلة حتى أشفى على الموت .. وكان صلاح طالبا فى السنة النهائية فى كلية الهندسة .. وكان مجدا فى دروسه متفوقا على أقرانه ومن أحسن أبناء همام أفندى .. ولهذا كان جزعه عليه شديدا فاستدعى له أشهر طبيب فى الحى .. وجلس فى انتظاره وعلى وجهه أمارات القلق ..
وجاء الطبيب ودخل على المريض وفى فمه السيجار .. واستاء الأب من طبيب يدخل على مريض وهو يدخن ولكنه كتم عواطفه وانتظر نتيجة الفحص ..
وفحص الطبيب المريض وطوى حقيبته وخرج إلى قاعة الضيوف ..
 وسأله همام أفندى فى لهفة :
ـ ماذا .. يا دكتور ..؟
ـ تيفود ..
ـ تيفود ..؟
واصفر وجه الأب وفزع من سماع هذه الكلمة وخيل إليه أن جميع من فى البيت من ناطق وجماد ينطق بها .. وأخرج الطبيب دفتره وأخذ يكتب .. الروشتة .. وطواها الأب فى جيبه صامتا .. وودع الطبيب إلى الباب الخارجى وعاد إلى الداخل .. فاستقبلته زوجته وأولاده وسألوه عما قال الطبيب .. قال لهم فى همس :
ـ تيفود ..
وشحبت وجوه الأبناء الثلاثة .. وفغرت الأم فاها واتسعت عيناها .. ثم انزوت فى ركن قصى وأخذت تبكى ..
وسرت الكلمة مسرى النار فى الهشيم .. ورنت فى جنبات البيت .. وفزع الأبناء من كل ما يقع تحت أيديهم .. وعفت نفوسهم الطعام وأحس أكثر من واحد منهم بعوارض تلك الحمى الخبيثة .. وأخذوا ينظرون إلى الأكواب والأطباق والملاعق وهم جلوس إلى المائدة ساعة الغداء بتوجس وخوف .. ورفعوا أيديهم عن الطعام بعد قليل .. وأخذ الأب يشرب القهوة ويدخن .. وجلس الأبناء صامتين .. تغير كل من فى البيت بعد سماع هذه الكلمة إلا الأطفال .. فإنهم ظلوا على حالهم يمرحون ويلعبون ويأكلون ويشربون ولا يحسون بأى تغيير .. كانوا يشربون من القلل والأباريق والأكواب .. ويدخلون على المريض .. ويصعدون إلى فراشه ويقبلونه .. وكانت والدتهم تحاول منعهم ولكنهم لايجدون سببا قويا لهذا المنع .. فاستمروا فى لعبهم فى هدوء حول المريض دون أن يعبأوا بشىء ..
وكان يشاركهم فى هذا الهدوء جدتهم فاطمة هانم .. فإنها منذ اللحظة الأولى التى وقع فيها نظرها على حفيدها صلاح أدركت أنه مريض بالحمى .. فلم تجزع .. فقد مرض بها كثيرون من أبنائها وأقربائها ومرضتهم وشفوا جميعا .. ولا داعى لهذا الجزع ..
وكانت تصلى الظهر عندما دخل الطبيب البيت .. فلما انصرف لم تكلف نفسها عناء السؤال عما قال .. ولعلها سمعت كلمة .. تيفود .. فلم تفهمها أو فهمتها ولم تعبأ بها ..
وذهب الوالد مع أبنائه الأصحاء إلى مكتب الصحة وطعموا أنفسهم ضد المرض .. وعزلوا المريض فى حجرته .. وكانوا يتحاشون ملامسة يده والاقتراب منه .. وكان أكثرهم حذرا كامل .. وهو طالب فى كلية الطب .. فقد كان يطهر يديه بالكحول النقى كلما دخل حجرة المريض أو صافح أحدا من الزوار ..
وظل الأطفال الصغار والجدة على حالهم لايعبئون بشىء ولا يقيمون وزنا للمرض وكان الأطفال يلعبون كل صباح فى حجرة المريض كعادتهم كل يوم .. وكانت الجدة تغير فراش المريض وأثوابه وتقبله وتحنو عليه وتسهر على راحته أكثر من أمه ..
وكان لهمام أفندى أخ يقيم فى الإسكندرية .. فلما سمع بمرض ابن أخيه .. جاء ليزور المريض .. ودخل عليه فى حجرته وقبله وأشعره بعطفه .. وكان العم مرحا طروبا ومحدثا لبقا فأخذ يقص على المريض طرفا من نوادره .. حتى شعر هذا بالارتياح وانطلق يضحك وضحك معه جميع من فى البيت .. وكانت للعم فلسفة خاصة فى الحياة .. ولاحظ الوجوم والحذر والتوجس .. الذى طالعه فى كل وجه فى البيت .. فامتعض لهذا .. ورأى أن يغير كل شىء .. وبعد قليل عداهم جميعا بمرحه فانطلقوا يضحكون ونسوا أن فى البيت مريضا ..
ولاحظ العم أن كاملا أشد من فى البيت حذرا وخوفا من العدوى فهو يغسل يديه دائما بالماء والصابون .. ويطهرها بالكحول .. كلما صافح أحدا أو لامس شيئا ..
فقال له وهو يبتسم :
ـ لماذا كل هذا يا بنى ..؟
ـ هذه وقاية واجبة ..
ـ وما الذى تفعله غدا .. وبعد قليل ستتخرج وتصبح طبيبا .. لاشك أنك ستجن إذا لامست مريضا بالوباء الأصفر .. أو الطاعون ..
ـ إن الطبيب يتخذ عادة جميع الاحتياطات ..
ـ وأول هذه الاحتياطات أن يدخل على المريض وهو يدخن كما نشاهد فى أطباء هذا الزمان .. اسمع يا بنى أن ما ينقصك .. وينقص غيرك من الناس هو صحة ادراك الأمور وما من إنسان يهرم لأنه عاش عددا من السنين .. وما من إنسان يموت لأنه مريض بالحمى أو لأنه لامس مريضا .. واللحادون هم أطول الناس أعمارا .. كما تعرف .. وإنما يموت الإنسان لسبب غير هذا .. وبعد قليل ستغدو طبيبا وستضع فى فمك الغليون .. وتدخل على المرضى بالحمى .. وتصف لهم الكلورومايستين وعصير التفاح وأنت تعرف أنهم لايجدون الخبز القفار .. وتلك سخرية المساخر ..
وابتسم كامل لكلام عمه .. ولم يعقب .. وجاء بعض الزوار فقطعوا حبل الكلام ..
*** 
وفى مساء يوم أحس كامل بالصداع الشديد والاعياء واضطراب الأمعاء .. وجاء الطبيب وفحصه وهمس فى أذن الأب :
ـ تيفود ..
وطلب عربة المستشفى على عجل .. وجاءت العربة وحملت المريض .. ولم يعد ..
*** 
وظل الأطفال يمرحون ويلعبون ولا يحفلون بشىء مما يجرى فى العالم الصغير .. وفى العالم الكبير .. وظلت الجدة تصلى وقلبها عامر بالإيمان ..
ـ تيفود ..
===================== 
نشرت القصة فى ص . الزمان بتاريخ 31/10/1950 وأعيد نشرها فى كتاب " زوجة الصياد " سنة 1961
=====================






















جريمة




فى صباح يوم من أيام الخميس وكنا فى اليوم الثانى من الشهر .. وطرقات الوزارة لاتزال مزدحمة بالرائحين والغادين وأصحاب الحاجات ..
دخل ساعى المكتب يحمل لى فنجانا من القهوة .. وأخبرنى أن سيدة على الباب تسأل عن زميلى الأستاذ حسن نور الدين .. ولم أكن أدرى أين ذهب حسن فى هذه الساعة .. وكان من عادته أن ينتهز فرصة انشغال الموظفين بصرف المعاشات ويخرج من الوزارة فى جولة طويلة لقضاء بعض الشئون المصلحية وشئونه الخاصة فقلت للساعى وأنا أنظر إلى مكتبه ولا أتوقع عودته قبل الظهر :
ـ قل لها أن تأتى غدا .. لأنه ربما لايرجع اليوم من مصلحة الأموال ..
فخرج الساعى .. وسمعته يحاور السيدة فى الخارج .. وفى أثناء الحوار أطلت هى برأسها من الباب ولما لم تجد أحدا فى المكتب سواى .. تشجعت ودخلت ورأيت شابة صغيرة وليست أرملة كما كنت أتوقع ..
وسألتنى بصوت فيه بحة الخجل :
ـ هل هذا مكتب حسن بيه ..؟
ـ أجل ..
ـ أين ذهب ..؟
ـ والله لا أدرى بالضبط .. يمكن راح البنك .. ويمكن ذهب لمشوار آخر ..
ـ إنى أقصده فى مسألة خاصة ..
ـ تفضلى استريحى إلى أن يرجع ..
وأجلستها على يمينى فى الفراغ الذى بين مكتبى ومكتب حسن وطلبت لها كوبا من عصير الليمون .. وجلست منكمشة على نفسها تضم مظروفا فى يدها بحرص .. وكانت ساهمة وقد بدا خط الأسى على الشفة الحالمة قبل الأوان ..
وكان يتردد على زميلى حسن بعض السيدات من الأرامل لصرف المعاش .. والنفقة فى كل شهر .. ولكثرة ترددهن عرفت وجوههن ولكن لم أشاهد هذه الفتاة من قبل .. ويبدو لى أنها جاءت إلى هنا لأول مرة .. فقد كان الخجل واضحا فى كل حركاتها ..
وكانت فى الثامنة عشرة من عمرها وترتدى جونلة رمادية على صدار أبيض .. وحذاء كأحذية الطالبات ولم تكن متأنقة ولكنها كانت نظيفة فى ثيابها وفى مظهرها ولم تكن تحمل فى يدها غير المظروف الذى كانت قابضة عليه بقوة ..
وكان الفراش قد وضع أمامها عصير الليمون ..
فرفعت الكوب .. وأخذت منه رشفة واحدة ثم أعادته إلى مكانه ..
ـ هل أطلب شيئا آخر .. إنه غير مثلج ..؟
ـ لا .. شكرا .. أنه عال .. وسأشربه بعد قليل ..
ورفعت الكوب مرة أخرى ..
ونظرت إلى وجهها بامعان وهى منشغلة بشرب العصير وكأنى كنت أود أن أرسم خطوط هذا الوجه فى رأسى .. بكل محاسنه الدقيقة .. وكان أبيض .. مستطيلا .. جميل التقاطيع .. وعلى الخد الأيسر غمازة صغيرة لم تتم استدارتها ..
وفى الذقن غرسة ينغرس فيها البنصر .. وفى العينين صفاء ورقة .. ولما رأتنى أحدق فيها بقوة .. احمر وجهها .. فحولت وجهى إلى الأوراق التى أمامى .. واستغرقت فيها .. حتى سمعتها تقول :
ـ هل سيتأخر ..؟
ـ يحتمل .. هل معك حاجة مستعجلة ..؟
ـ نعم ..
ووضعت يدها فى المظروف وأخرجت منه ورقة مدموغة وناولتها لى ..
ـ توكيل ..؟
ـ نعم ..
ـ من الموكل ..؟
ـ بابا ..
ـ حضرتك .. الآنسة سميرة ..؟
ـ أجل ..
ـ لأول مرة ..
ـ لأول مرة ..
ـ وتريدين أن أصدق على التوكيل .. وأشهد بأن والدك وقع أمامى .. ووكلك فى صرف المعاش عن هذا الشهر ..
ـ نعم ..
ـ ولكنه لم يوقع أمامى .. فكيف أشهد على شىء غير حقيقى فى نظرى .. هذه مسألة خطيرة ..
واتقد وجهها .. ونكست رأسها .. وهمست :
ـ بابا .. أرسلنى لحسن بيه بالورقة هكذا ..
ـ انتظريه .. سيأتى حالا .. وأنا فى غاية الأسف .. لأنى لا أستطيع أن أفعل شيئا ..
واتقد وجهها مرة أخرى وجلست ذليلة .. صامته لا تكاد تتماسك وشغلت بما أمامى من أوراق مرة أخرى .. فانصرفت عنها حتى اقتربت الساعة من الثانية عشرة ظهرا ونظرت إلى مكتب حسن الذى لايزال خاليا وإلى الفتاة .. الجالسة بجوارى صامتة ذليلة .. وخفت أن يضيع عليها النهار دون أن تصرف ..
وخطرت على بالى فكرة .. فسألتها :
ـ أين والدك الآن ..؟
ـ فى البيت ..
ـ هل أستطيع أن أكلمه فى التليفون ..؟
ـ ليس عندنا تليفون ..
ـ هل البيت قريب ..؟
فصمتت ولم ترد ..
وقلت لها لما وجدتها صامتة ..
ـ إنى مستعد أن أركب معك تاكسى ونروح البيت ليوقع أمامى ..
ـ وبغير هذا لاتشهد ..؟
ـ محال ..
وتندت عيناها بالدمع .. ونظرت إلىَّ برهة .. ثم قالت بصوت خافت :
ـ إنه لايستطيع أن يوقع ..
ـ لماذا ..؟
ـ لأنه مشلول .. انشل من يومين ..
ـ ومن الذى وقع بدله ..؟
ـ أنا ..
ـ ولماذا تفعلين هذا يا آنسة ..؟ إنه تزوير .. جريمة .. وتمزق صوتى .. وأحسست بطعنة .. فى صميمى .. وفى كيانى كإنسان .. فلم أستطع أن أقول شيئا آخر ..
وحركت يدها ووضعت أمامى روشتة حديثة لطبيب .. دون أن تنطق .. ولم تكن فى عينيها دموع .. فى هذه اللحظة بدا كأن فيها مثل حبات اللآلىء وهى تترجرج على لوح من البللور .. وأحسست بأن شيئا يمزقنى ويمزق الأوراق التى أمامى ويمزق كل اللوائح وكل القوانين التى من وضع البشر ..
إن ما حدث لهذا الرجل المسكين يمكن أن يحدث لى ولأى إنسان .. ويمكن أن تقف أية فتاة أخرى هذا الموقف .. وتدخل دواوين الحكومة لأول مرة .. وهى ضائعة مثل هذه ..
كانت قد أطلقت العنان لعبراتها .. فتركتها تبكى .. ثم مسحت دموعها وقالت وهى تضع بطاقة مدرسية أمامى :
ـ إذا كنت لاتصدق حضرتك فهذا اسمى بالكامل ..
فأعدت لها البطاقة دون أن أنظر إليها .. وأشعلت سيجارة لأريح أعصابى .. بعد أن شعرت بأن جدران الحجرة .. تضيق علىَّ وتخنقنى والجو يحبس أنفاسى ..
ونهضت إلى التليفون وكان فى زاوية من الحجرة لأسأل عن حسن فى الأماكن التى أتوقع وجوده فيها فى هذه اللحظة .. وأدرت قرص التليفون .. وأنا واقف وكانت الفتاة فى هذه المرة .. تحت نظراتى مباشرة .. ورأيتها واضعة ساقا على ساق .. ومنكسة رأسها وواضعة يدها تحت ذقنها ورأيت شعرها .. وجمال ساقيها وخطوط ثوبها .. واستدارة جسمها ..
 فى هذه الجلسة .. رأيت جمالها بوضوح .. وقدرت ماسيحدث لها لو ذهبت إلى شخص آخر ربما يحاول أن يتقاضى منها ثمن هذه الشهادة .. فى مقابل أن تحصل على النقود اليوم .. وتعود بها وتضعها فى يد والدها المشلول ..
وماذا يمكن أن تفعله أسرة حلت بها هذه النكبة .. تريد أن تأتى بالدواء للرجل المريض وتدفع أجرة البيت ومطالب البقال .. والجزار .. فى مواعيدها .. هل تنتظر أسبوعا حتى يحمل الرجل على محفة إلى الشهر العقارى .. ليقوم بالاجراء المطلوب فى مثل هذه الحالة .. ربما مات الرجل قبل ذلك .. وماتت الأسرة من العذاب ..
ونظرت إلى الفتاة مرة أخرى .. وتمزقت .. وأحسست بأنياب حادة تنهش فى لحمى وارتجفت .. وفى غمرة انفعال عنيف تناولت منها التوكيل ووقعته وأنا لا أحس بحركة يدى .. ثم ذهبت إلى موظف من أصدقائى وجعلته يوقع كشاهد ثان .. وختمت الورقة وأتممت لها كل الاجراءات ..
وذهبت معها إلى الصراف .. ووقفت بجوارها .. حتى صرفت المبلغ .. ووضعته فى جيبها وسلمت وذهبت .. وأنا أحس بسعادة من أنقذ إنسانا من الهلاك .. 
ولكن بعد أن خرجت من الديوان .. أخذت أفكر فى المسألة بواقعها المحسوس المجرد من العواطف الصارخة .. فقد وقعت مع الفتاة على توكيل مزور .. ومن يدرينى أنها ابنة الرجل حقا ..ولماذا لاتكون فتاة أخرى ومثلت الدور وذكرت حادث الشلل لتستدر عطفى ولكى لا تجعل لى سبيلا للسؤال والتحقيق .. ولماذا لم أطلع على بطاقتها المدرسية عندما قدمتها لى .. أخذت هذه الخواطر تدور فى رأسى وتعذبنى وتجعلنى أتيقن بأنى تسرعت .. وأشركت زميلا لى طيب القلب فى جريمة ولو تكشف الأمر سيسبب له ازعاجا .. شديدا .. وربما يصاب هو بشلل حقيقى ..
ظلت هذه الخواطر تعذبنى أربعة أيام بلياليها وفى كل ساعة .. كنت أتوقع استدعائى للتحقيق ولم أحدث حسن بأمر الفتاة وما جرى لى معها .. كتمت المسألة عن الجميع ..
وكانت حدة القلق قد خفت .. ولكننى فى ضحى يوم .. تركت مكتبى ونزلت إلى الأرشيف .. أبحث عن اسم والد الفتاة وكنت أحفظه جيدا بين أسماء الموظفين وحمل لى رئيس القسم ملف الرجل .. ووضعه أمامى .. وفتحت أول صفحة ثم طويته .. لم أجد فى نفسى القدرة على أن أنبش أسرار الناس .. وكنت أود أن أعرف عنوان بيته ولكن حتى هذا تركته ولم أجد باعثا عليه ..
*** 
ومرت الأيام وطويت هذه الصفحة ..
وفى ليلة .. كنت أعبر الطريق فى ضاحية القبة .. فصدمتنى سيارة صدمة عنيفة ونقلت وأنا غائب عن وعيى وبين حى وميت إلى مستشفى الدمرداش ..
وفى الصباح .. فتحت عينى فوجدت نفسى على سرير فى إحدى غرف المستشفى التى فى الدور الأرضى المطلة على الحديقة ورأسى معصوب بالأربطة .. ووجدت التمرجية تنظف الغرفة بعناية وتغسل أرضها بالفرشاة وهى شىء غير معهود فى مستشفيات الحكومة .. ولما رأتنى أفتح عينى ضمت ثوبها على ساقيها وابتسمت وقالت :
ـ سعدية .. جاءت بالافطار .. ووجدتك نائما .. سأناديها ..
وخرجت الفتاة وحملت لى صينية الطعام .. ودخلت بعدها الممرضة لتعطينى الدواء .. فلما وجدتنى لم أقرب الطعام ..
ـ لماذا لم تأكل ..؟
ـ ليس عندى شهية ..
ـ كل جيدا .. لأجل أن تعوض الدم الذى نزف منك ..
ـ دم ..؟
ـ حصل لك نزيف .. ونزل منك دم .. يعوم مركب وحملك الإسعاف .. وأنت ميت .. فأسعفناك .. بعملية نقل الدم فى الحال ولولا هذا لمت ..
ـ نقل دم ..؟
ـ أجل ..
ـ ولم يكن يوجد فى المستشفى دم كفاية فى هذه الساعة فتبرعت لك الست الحكيمة بدمها .. وكانت ستموت هى .. ظلت ثلاث ساعات راقدة فى الفراش ..
ـ الست الحكيمة ..؟
ـ ألا تعرفها ..؟
ـ أبدا ..
ـ أنها قادمة .. نحوك هاهى تعبر الحديقة ..
وسمعت أصوات أقدام خفيفة .. تقترب فى الممر الحجرى فاتجهت إليها ببصرى ووقفت سميرة من الخارج وراء باب الشرفة الزجاجى .. وكان مغلقا .. ونقرت عليه بخفة وفتحت لها الممرضة الباب فوقفت فى ثوبها الأبيض الجميل على العتبة وكانت تتصور أنى مازلت نائما .. ولكن لما رأتنى صاحيا .. ترددت فى الدخول ..
 أنها هى كما رأيتها من سنين ثم أبعدت يدها عن الباب وتراجعت واختفت عن بصرى بسرعة ..
 ولمحت شيئا جديدا فى يدها فى أثناء هذه الحركة على أن شيئا صغيرا يتألق فى ضوء الشمس ..
 وكان هذا الخاتم يستطيع أن يمزقنى ويعذب روحى لو كان لى غرض أبغيه خلاف طهارتها وسعادتها ..
===================== 
نشرت القصة فى ص . الشعب بالعدد 1107 بتاريخ 25/6/1959 وأعيد نشرها فى كتاب " زوجة الصياد " سنة 1961
=====================
















الجياد الشهباء



اشتهرت قرية الرمانة ببساتين الرمان الغنية التى تنتج أجود أصنافه فى الصعيد قاطبة .. حيث من بعدها شهرة بساتين منفلوط والساحل ..
وكانت السيدة خديجة وهى أرملة فى الأربعين .. ومن قريباتى الأبعدين تمتلك حديقة كبيرة للرمان فى هذه القرية .. فكلفتنى فى هذا الموسم أن أنوب عنها فى محاسبة الشيخ عبد الحكيم مستأجر الحديقة ..
ومع أنها كثيرة الوسواس والشكوك وتحملنى المشقة فى كل عمل تكلفنى به .. ولا ترضى بشىء أبدا .. فإننى ذهبت من أجل صغارها الأربعة اليتامى .. ولأن زيارتى للريف تلهب حواسى وتفتح أمامى آفاقا جديدة من التأمل ..
وكنا فى نهاية سبتمبر والفيضان على أشده والنيل فى هذه المنطقة فى اتساع المحيط وعمقه .. فغرقت الجذر والدساكر والنجوع وكان يخيل إليك من فرط اللج الذى تراه فى كل مكان أنه الطوفان ..
كانت شطآن النيل غارقة فى المياه السوداء .. والأمواج تضطرب والمراكب تصارع التيار وتسير فى محاذاة البيوت ..
وعندما نزلت من السيارة العمومية فى محطة الرمانة .. بدا لى أننى الراكب الوحيد الذى يقصد القرية ..
وكانت هذه فى بهجة الصباح يداعب نخيلها ريح الخريف .. وتبعث الدخان من أفران الخبيز .. والمياة قد غطت الأرض كلها .. وجنى القطن .. وكوم حطبه على الجسر .. وحملت الجمال واللوريات بالأكياس .. وقوست الذرة .. وشونت أطنان البوص فى أطراف المزارع ..
وأخذت نسمات الصباح اللينة تحرك صفحة الماء .. وغادرت الطيور أعشاشها على الشجر واتجهت إلى حيث الشمس والحياة ..
وكانت القرية .. تبدو ساكنة والفلاحون فى فترة الراحة التى تسبق الزرعة الشتوية ..
وكان الشيخ عبد الحكيم رجلا متعلما فى قرابة الخمسين من عمره ومن أحسن الزراع فى المنطقة .. ويعنى عناية خاصة بالبساتين من زمن واكتسب خبرة على مر السنين ..
وكان بيته على الجسر .. فى مدخل القرية من الناحية الشرقية .. بيتا كبيرا من طابقين مبنيا بالطوب الأحمر ومطليا كله من الداخل بالبياض والمصيص ..
وجعل حجرتين فى الطابق الأول للضيافة وأفرد لهما بابا خاصا .. مد أمامه طرقة جميلة .. معرشة بشجر العنب ..
وفى هذه المندرة وتحت تكعيبة العنب كان الفلاحون يجلسون مع الشيخ عبد الحكيم ويتحدثون عن أحوال الزراعة والسوق وعمالهم فى المستقبل ..
وكان الرجل قد درس دراسة ثانوية ثم انقطع للزراعة بعد وفاة والده .. وكان بطبعه واسع الأفق فطنا .. فقد أكسبته الدراسة القليلة فى المدارس زادا آخر حتى تفوق على أقرانه من الزارعين وكان فى كل سنة يستنبت شيئا جديدا فى الأرض .. فزرع الكروم والكمثرى والخوخ ثم تجرأ وزرع التفاح .. ونجحت التجربة وهزت المشاعر ..
وكان حسن المظهر مهيب الطلعة مسموع الكلمة ومحبوبا من الفلاحين ولم يكن يماطل أو يسوف فى دفع ايجار الحديقة للسيدة خديجة .. ولكن السيدة كانت كثيرة الوسواس .. وكانت تتصور فى كل سنة أن أرضا جديدة أضيفت إلى الأرض من طرح النهر أو حل الوقف .. وكانت تتعبنى وتتعب الشيخ عبد الحكيم معى ولكن الرجل كان يقابل وسواسها بطبعه اللين .. ويطلب الدلال ونذهب معا انقيس الأرض بالقصبة ونضيع فى سبيل ذلك نصف النهار ..
ولكن الخروج إلى البساتين والمزارع فى أية ساعة من النهار كان يروقنى ويهز مشاعرى ..
وكانت القرية فى زمن الفيضان تبدو فى أروع حلة .. فهواء الخريف اللين يداعب الوجوه .. والجسر يرش بالماء .. ثلاث مرات فى خلال النهار .. واللجة تطوق القرية من كل جانب .. فغرقت حقول الذرة الشامية .. وبساتين النخيل .. وأشجار السنط .. ونمت الحشائش بغزارة .. على شاطىء الترعة .. وخرجت الفراريج والديوك الرومية تجرى فرحة فى طرقات البساتين وأخذ البط والأوز يسبح فرحا فى الماء وهو يصوصو كأنه فى عيد ..
وبرك الجاموس فى الترعة .. وخرجت الخيل بعد الحمام وهى تتبختر على الجسر هازة ذيولها الطويلة ..
وكان الماء يجرى حاملا معه الطمى والأعشاب والمراكب الكبيرة تنطلق فى عرض النيل وهى ناشرة أشرعتها البيضاء محملة ببالات القطن والحبوب .. وأكياس السماد .. وزوارق الصيادين الصغيرة تبدو من بعيد كأنها فى صراع رهيب مع التيار ولا تسير أبدا ..
وإنى لأعجز عن وصف شعورى فى قلب الريف فى هذه الساعة .. فقد مرت بى لحظات من الغبطة والشعور بالرضاء النفسى .. لا أستطيع أن أصف موقعهما على حسى ووجدانى ..
وكنت أحس بأن شيئا جليلا قد حدث ببلادى .. شيئا جديدا .. رأيته فى وجوه الفلاحين الكادحين وفى بيوتهم النظيفة وفى مزارعهم .. ورأيت بناية الوحدة المجمعة .. تضاء بالكهرباء .. وفيها المستشفى الصغيرة والمدرسة .. والمركز الاجتماعى ..
ورأيت طرقا جديدة جميلة تشق .. وفوانيس على الدروب .. وبعد السد العالى سأرى الكهرباء والنور فى كل مكان وسينمحى الظلام من البيوت ومن الطرقات .. ومن الأذهان نفسها ..
وإنى لأحس أن شيئا جميلا لطيفا يحيط بى .. وذهبت إلى كل مكان فى القرية وأخذت أتحدث إلى الفلاحين فى مقاهيهم الصغيرة وفى منادرهم ومجازاتهم وعلى ناصية الدروب .. وكنت أسمع آمالهم وتفتح نفوسهم للحياة .. وللمستقبل ..
وانتهيت من مهمتى فى آخر النهار .. وكان الشيخ عبد الحكيم يود أن يستضيفنى يوما أو يومين آخرين ولكننى اعتذرت له لمشاغلى .. وأبديت له رغبتى فى أن أزور ضريح الشيخ فضل .. لأن السيدة خديجة كلفتنى أن أضع بعض المال بيدى فى صندوق النذور ..
ونظر إلىَّ الرجل فى تعجب إذ كان يعرف أننى لا أزور الأضرحة ولا أعتقد فى الأولياء .. فلما عرفته بأنى مضطر أن أنفذ رغبة السيدة خديجة بحذافيرها وإلا تسببت فى مرضها وزيادة هواجسها ووسواسها .. خرج بنفسه من الدار .. ليحجز لى المعدية .. لأن ضريح الشيخ قضل كان على ربوة فى جزيرة قريبة من القرية .. 
وخيم العشى .. وغمر السكون الكائنات إلا من نباح الكلاب .. وكانت العتمة جميلة فى أضواء الماء المحيط بالجسر .. وبدا أن النزهة على الجسر غاية المنى فى هذه الساعة ..
وهزنى الشوق إلى أن أتمشى .. فخرجت مع محفوظ بن الشيخ عبد الحكيم .. ومشينا نتهادى على الجسر .. بعد أن علمنا أن المعدية فى العدوة الأخرى .. وأن عودتها تستغرق أكثر من ساعة .. وكانت الأشجار الصغيرة تتنفس فى ساعة الغروب .. وصفحة اللجة كالفضة البيضاء ..
وبزغ القمر وألقى خفيفا من الضوء الباهت على جذوع الأشجار .. والأغصان الملتفة والعشب النابت على شاطىء الترعة ..
وبرغم طلوع القمر فإن الضوء لم يبدد حجب الظلام الكثيفة هناك عند البساتين .. حيث ينحرف مجرى النهر .. وبدت أشجار النخيل المعروشة متشابكة الفروع فى الفتحة المدلهمة كأنها المردة ..
وفاض قلبى بالسعادة لما حولى من سحر ..
وأخذت أنظر إلى هناك إلى مطلع الأشجار .. وفجأة لمحت شيئا يسقط وهو يضىء فى ظلام البستان .. شيئا يلتمع كالشهاب .. ويمرق كالسهم .. وهو يتحرك فى اتجاه الجسر ..
وكنت أراه لأول مرة فى ليل الريف .. فلم أخف منه ولم أسأل محفوظ عنه .. ومضيت فى طريقى بصحبته .. فقد كان هناك حنين ملح يدفعنى إلى التجوال ..
ورحت أنعم بالضياء وبهواء الخريف من حولى .. وأنا أدرك نقطة التحول فى حياتنا .. وأن شيئا جليلا وباهرا قد حدث .. وهو ينمو ببطء فى أعماق التربة .. وسيهتز بالزرع النضير .. وتصبح رقعة الأرض فى مثل خضرة الزمرد ..
وكانت صور بشرية تمر أمام عقلى وأنا أسير على الجسر .. وكنت أفكر فى الطمأنينة والأمان والحياة الرغيدة التى سيعيشها الفلاحون بعد أن تطورت حياتهم وأخذ الظلام يتبدد تدريجيا من الريف .. وكنت أعى معانى الأشياء بحواسى جميعا وأقدر المستقبل المشرق ..
وظللت أرى القمر والضوء الباهر والشجر المهتز .. وأنا مسحور بما حولى من جمال ..
ولما رجعنا من نزهتنا على الجسر وجدنا الشيخ عبد الحكيم فى انتظارنا ووجدنا أن المعدية لازالت فى البر الثانى .. ومن الصعب عودتها لقلة الريح .. فانطلقنا على شاطىء النهر لنعثر على زورق يوصلنا إلى الجزيرة ..
وكان النهر واسعا كالمحيط فى هذه المنطقة ولم نر شراعا ولا ظل شراع ..
ولما كانت المعدية ميئوسا منها .. فقد خشينا أن يدخل علينا الليل ونحن فى العراء .. فتقدمنا إلى الأمام على الشاطىء حيث توجد زوارق الصيادين لنعثر على زورق .. وبرز قارب من الظلام ودخل فى ضوء الشاطىء .. ومازال يتقدم حتى صافح بمقدمه الرمال الناعمة ..
وخرج الملاح يسحب القارب بعد أن طوى القلع ..
فقلنا له :
ـ عدينا .. ياريس ..
ـ الريح كما ترون .. ناعسة ..
ـ سنساعدك بالمجاديف ..
فحدق فى وجوهنا ..
كان عجوزا طويل العود أسمر .. وكانت عيناه نفاذتين براقتين .. وذقنه طويلة وجللها البياض ..
ولم نكن ندرى الذى يدور فى رأسه .. وأخيرا قال :
ـ تفضلوا ..
وأدار نحونا القارب ..
ونزلنا فى الزورق وحرك الدفة وكان كل ما حولنا رائقا .. رائعا كل الروعة .. النهر .. وما بقى من اليابسة .. والنخيل الصغير .. وشجر السنط .. والنبق الذى يسبح فى الماء ..
وكانت هناك مساحات واسعة من الأرض الرملية .. طوتها المياة السوداء .. ونبت الطحلب والحشيش .. والهيش .. فى السفح وعلى التلال .. التى تطوقها المياة .. وحمل الموج على متنه عروق الخشب .. المنكسرة على السدود .. والقفف وأطنان البوص .. والحيوانات الميتة .. والغرقى من بنى الإنسان ..
وكانت ثمة مناطق سوداء من النهر .. تبدو كقطع الليل .. وكان المساء يهبط بظلامه .. وحتى الضباب الأشهب قد خيم على القرية ونحن نبتعد عنها .. وبدت بيوتها السوداء تتأرجح مع الزورق فى خط الأفق .. ثم غابت عن بصرنا ..
وبدأ شىء هناك كالحريق يلتهب .. فى الجانب الشرقى كانوا يحرقون قمينة للطوب .. والدخان يتلوى ثم يتجمع فى النهر كقطع السحاب الأسود ..
وعندما تبتعد عن القرية كان كل شىء يموت أمامنا .. وكان الشىء الوحيد الحى .. هو السيارات التى تبدو أنوارها من حين إلى حين على الجسر .. ثم طلقات البنادق من الفلاحين .. طلقات فى الجو .. تهتز وتصفر فى النيل أمامى كصفارات القطارات ..
ولما اشتد علينا التيار .. فى وسط الماء .. عاد الملاح .. قريبا من الشاطىء فسمعنا .. الضفاضع تنقنق .. وشيئا كالتكة الرتيبة التى نسمعها من وابور الطحين ..
وبدأ القمر يطلع .. فلاح لنا وجه الشيخ العجوز .. الذى يحرك الزورق ..
كان شيخا معروقا فى جلباب أسمر .. وقد شمر عن كميه وترك لحيته الشهباء طويلة ولكنها ممشطة .. وبدت العافية تطل من عينيه اللامعتين ..
وسأله الشيخ عبد الحكيم .. بعد أن أشعل له سيجارة :
ـ هل عندك خير .. ياعم ..؟
ـ لم يفتح .. الفتاح ..
ـ ومتى يفتح ..؟
ـ لما نقترب من الشيخ فضل .. فالخليج هناك ملىء بالأسماك ..
ـ وهل تصطاد الحيتان ..؟
ـ كثيرا ما يحدث هذا خصوصا فى موسم الفيضان .. ومرة اصطدت سمكة ولما وزناها فى الحلقة .. وجدناها مائة رطل .. وقد عجب لها الصيادون ..
ـ وكيف اصطدتها ..؟
ـ ظللت فى صراع معها طول الليل .. وأخيرا سحبتها فى وش الفجر ..
ـ وكنت وحدك ..؟
ـ أجل .. كما أنا الآن ..
وسألته :
ـ كم عمرك ياعم ..؟
ـ خمسة .. وثمانين .. ستة وثمانين ..
ـ ماشاء الله ..
ـ الصيادون يعمرون ..
ـ لم أر فى حياتى جنازة لصياد ..
ـ أنهم يدفنون فى قاع البحر فكيف تراهم ..
وضحكنا ..
وكان هناك ظل ينسحب على الشاطىء .. مع اتجاهنا ثم سمعنا من يصيح :
ـ عدينى ياعم ..
فابتعد الصياد .. بدلا من أن يقترب من الشاطىء .. وسألته :
ـ لماذا لم تأخذه ..؟
ـ أنك لا تعرف الفلاحين فى الليل ..
ـ هل يبيتون لك شرا ..
ـ من السهل جدا أن يحدث ذلك وقد حدث أمر لن أنساه كنت أتحرك .. على الشاطىء ذات ليلة فى عتمة كهذه منذ ثلاثين سنة وكان معى المعلم غطاس وهو تاجر فى سنى طيب القلب وكان معروفا فى زمانه .. وكنا نشترى منه جميعا كسوتنا وكان راجعا من السوق .. إلى عياله حاملا الصرة وفيها ما بقى من القماش بعد السوق .. ولم يجد المعدية .. كانت فى البر الثانى .. والليل دخل .. ووجدنى أحرك المجداف قريبا منه .. ونادانى .. فأخذته .. وقبل أن أبعد عن الشاطىء وجدت شخصا آخر يهتف بى أيضا .. فحولت القارب إليه .. وركب صامتا .. ولم أكن أعرف أنه مسلح .. وأنه يتبع غطاس إلا بعد أن سمعت أنه قتله .. هناك فى دغل النخيل ..
ـ وكنت تعرف القاتل .. ؟
ـ أبدا .. إنه ليس من بلدنا .. وحولنا أكثر من عشر قرى ونجوع .. وكل من عدى من هنا إلى البر الغربى .. لا أعرف اسمه ولا بلده ..
ولما قبض البوليس .. على بضعة أشقياء وعرضهم علينا لم يكن من بينهم القاتل فلم نخرجه من الصف .. وتبع الهجانة الآخر .. ثم اختفى .. ولم يستطيعوا مواصلة التتبع ولم يستطع البوليس أن يجد أى دليل فى يديه فترك صراح من قبض عليهم ..
ـ وذهب دم البائع المسكين هدرا ..؟
ـ أبدا .. قبل أن ينتهى موسم الحصاد .. عرف الناس القاتل .. ولكنهم خشوا بطشه فسكتوا .. وغلب الحزن الأرملة المسكينة ومزق نياط قلبها ..
وفى غروب يوم حملت أطفالها وذهبت إلى ضريح الشيخ فضل وظلت تبكى وتستجير به ساعة .. وقبل أن تعود المرأة إلى بيتها صرع القاتل ..
ـ وكيف حدث هذا ..؟
ـ أصابته رصاصة طائشة من الرصاص الذى يطلقه الفلاحون فى الليل .. كما اتفق .. لمجرد الارهاب وسقط صريعا فى مكانه ..
ونظرت إلى الشيخ عبد الحكيم ..
فسألنى :
ـ ألا تصدق .. رواية الصياد ..؟
ـ لماذا .. لا أصدق والعالم كله أسرار ..
ـ وماذا اكتشفنا منه ..؟
ـ القليل .. والقليل جدا ..
ـ الشمس .. والقمر .. والنجوم .. والشهب والجن .. وحتى السحاب عوالم كلها أسرار ..
ـ بالطبع كلها أسرار ..
ـ وماذا فعلنا أنظر إلى الشهب .. سقط نجم بذيل وهوى .. هل عرفت السبب ..؟
ـ أبدا ..
ـ وكذلك عالم الموتى .. وسيظل السر سرمديا .. لأنه مرتبط بوجودنا فى هذه الحياة ..
ـ ستعنى أنه سيظل أزليا .. وفوق عقل البشر ..
ـ بالطبع ..
وكانت الريح تهب من جانب النهر .. وشال القلع واتجه الزورق صوب نجع الشيخ فضل ..
وكانت هناك فى التلال العالية ذرة شامية مزروعة حديثا أشبه ببساط أخضر .. وأغرقت بعضها المياه عند سفح الجبل ..
واقترب الملاح من اليابسة .. وخرجنا .. من الزورق .. وقد رفض الصياد أن يأخذ أجرا ..
وسرنا على اليابسة بعيدا عن الأرض الموحلة .. حتى بلغنا الضريح ..
ودخلنا وقرأنا الفاتحة .. ووضعت النقود التى نذرتها السيدة خديجة فى صندوق النذور ..
وقال لى الشيخ عبد الحكيم وهو يبتسم :
ـ سيسرق الصندوق الليلة ..
ـ لماذا ..؟
ـ لأن أحدا لايجىء إلى هنا ويضع فيه مثل هذا القدر من المال ..
وفى المجاز وجدنا امرأة فى سواد .. جالسة وحدها وقد غطت وجهها ..
فقال لى الشيخ عبد الحكيم :
ـ تقدم للشيخة سكينة لتقرأ لك الطالع ..
ـ طالعى أنا ..؟
ـ أجل .. وستحدثك عن أشياء كثيرة تسرك ..
وصوبت بصرى إلى المرأة .. كانت منكسة رأسها والطرحة التى تغطيها فى لون الهباب ..
وأسمعتها صوتى .. فرفعت إلىَّ وجها معروقا وأزاحت قناعها .. ورأيت عينين فى وميض الزئبق وشعرا أبيض فى احمرار وقد أخذ لون الشهب ..
وكان ثوبها ويداها وكل شىء فيها تفوح منه رائحة نفاذة .. لم أرتح لها .. وظلت تحدق فينا برهة بعينين واسعتين .. وكان إلى جانبها وعاء فيه ماء .. كأنها تستطلع فيه الأسرار ..
وسألها الشيخ عبد الحكيم :
ـ هل نستطيع أن نشرب الشاى ياحاجة ..؟
ـ لا .. واذهبا .. عنى ..
ـ ألا تعرفين عبد الحكيم ..؟
ـ أعرفه .. لقد دخلت المساطيح كلها .. ولم تفكر أن تبعث بكيلة ذرة واحدة لسكينة المسكينة التى تعيش فى ظل الضريح ..
ـ سأرسل لك ست كيلات غدا ..
ـ هذا غدا .. أما اليوم فاذهب ..
ـ معى .. ضيف من مصر .. جاء لتقرئى له بخته ..
ـ ابراهيم أفندى .. أعرفه .. أنه لم يأت إلى ديارنا .. منذ خمسة عشر سنة ..
وارتعشت وأخذنى العجب وأنا أسمع منها هذا الكلام كيف عرفتنى هذه العجوز الساحرة .. وعرفت اسمى ..
وتذكرت امرأة مثلها .. اسمها الشيخة صلوحة كانت تعيش هناك .. فى جبل أسيوط .. وكنت أقف .. بعيدا عنها وحولها النساء والجموع الغفيرة تكاد تكتم أنفاسها من التزاحم عليها .. وإذا بها تقول بصوت هادىء :
ـ يا ابراهيم أفندى قرب .. مالك تقف بعيدا قرب .. لماذا كنت تسبنى فى الطريق وتبعد عنى النساء .. إنك ستشقى وتتعب فى الحياة ..
ولقد شقيت .. وتعبت حقا ورأيت الويلات
وبعد كل هذه السنين أقف الساعة أمام شيخة أخرى ..
نادتنى الشيخة سكينة وهى تحرك نحوى عينيها الفاحصتين ..
ـ قرب يا ابنى ..
واعطيتها يدى .. مستسلما .. وبرز ضوء من الطاقة .. ضوء سقط على يدى وعلى وجهها فبدا فى تجاعيده وخطوطه ..
وقالت فى صوت كالفحيح بعد أن تأملت يدى مليا :
ـ الطريق أمامك .. مفتوحة .. توجد نقود .. وامرأة .. وسفر .. ستسافر .. سفرة طويلة .. طويلة .. وستركب عربة مطهمة تجرها أربعة جياد شهباء أربعة جياد شهباء .. وستنطلق بك بعيدا بعيدا .. وحوافرها ترسل النار ..
وتركت يدى .. وبحثت فى جيبى عن قطعة فضية وألقيتها فى الطبق صامتا ..
        
وأخذنا الطريق إلى الشاطىء والليل فى أخرياته .. وبعد لأى وجدنا زورقا آخر أكبر من الأول قليلا وانطلق بنا الملاح فى عرض الماء ..
وجلست فى المؤخرة وحدى .. وأنا أنظر إلى الشفق وفجأة لاح شىء كالشهاب يتشقق فى السماء ..
ثم انشقت العتمة التى فى البستان .. عن عربة مطهمة تتحرك بسرعة .. ويجرها أربعة جياد شهباء .. وكانت تمضى بسرعة وحوافرها تقدح النار ..
وأحسست برعشة وسح منى العرق .. وتغشى عينى السواد .. مرت سحابة أمام بصرى .. ولم أعد أرى شيئا ..
وسمعت صوت الشيخ عبد الحكيم :
ـ مالك ..؟
ـ لا شىء ..
ـ هل لازلت تفكر فى الساحرة ..؟
ـ إنى أفكر فى هذا العالم .. كله أسرار ..
ووعيت لصوت المجاديف ..
وكانت قرية الرمانة لاتزال مغلفة بالظلام هناك عند خط الأفق ..
====================== 
نشرت القصة فى ص . أخبار اليوم بالعدد 1408 بتاريخ 18/10/1961 وأعيد نشرها فى كتاب " زوجة الصياد " سنة 1961
====================== 
   








دروس فى الفلسفة

كان الأستاذ عامر أستاذا فى الفلسفة .. وقد درس فى السربون وعاش فى باريس أكثر من اثنى عشر عاما .. يجد لذته الكبرى فى الكتب والاستماع إلى محاضرات الاعلام من الأساتذة .. وكانت الفلسفة قد أشربت بدمه وامتزجت بروحه .. حتى أصبح يتفلسف فى حياته الخاصة والعامة  .. وعندما عاد إلى القاهرة .. احتفظ فيها بطابعه الفلسفى الخالص وكان يلقى فى الجامعة محاضرة واحدة فى الأسبوع .. ثم يقضى وقته كله فى صومعته غارقا فى كتبه وتأملاته الفلسفية ..
وكان يسكن فى شقة تقع فى الدور الثامن من عمارة ضخمة فى الجزيرة .. ولها شرفة رحبة تطل على النيل .. وفى هذه الشرفة كان يجلس وأمامه الكتب .. وحوله تلاميذه ومريدوه ..
                                   ***                                               
وكان تلاميذه يذهبون إليه فى أية ساعة من النهار والليل .. ويجلسون حوله فى خشوع وصمت .. وكان الأستاذ يجلس على كرسى طويل .. ونظره الحالم يعبر الشرفة .. إلى السماء .. الزرقاء الصافية .. وإلى الآفاق البعيدة ..
وكان يحدثهم .. فى حماسة بالغة .. وصوت متدفق .. عن هيجل .. وشبنجلز وشوبنهور .. وكنت ورسل .. وبرجستون .. وسارتر .. والذباب بوجه خاص .. وعن مستقبل الحضارة .. والعلم .. والحياة فى عصر الذرة .. وعن ماوراء الطبيعة وعن مستقبل البشرية .. وعن القنبلة الهيدروجينية .. وقنبلة الكوبالت .. !! وعن المنازل .. التى تناطح السحاب والعمارات الضخمة من البللور الخالص .. ومن البلاستيك .. وعن الطائرات والسيارات التى تسبق الصوت ..
***  
وفى خلال الحديث الحماسى المتدفق .. كانت تمر عليهم .. سنية بأكواب الشاى .. وفناجين القهوة .. وكانت سنية خادمة .. الأستاذ وطاهيته وممرضته .. ومديرة شقته الصغيرة .. وهى الأنثى الوحيدة .. فى بيته .. فقد كان أعزب .. ومنذ رجع من باريس .. وترك حياة الفنادق وهى معه .. وكانت جميلة ونظيفة وتفعل كل شىء لراحته .. وفهمت طباعه كلها .. فهى ترتب له الكتب والمراجع .. وتعد له نوتة المحاضرات .. وتصنع له القهوة المركزة .. والافطار الخفيف ثم تنظف له الغليون وتملأ له علبة الطباق .. وتخرج له فى ساعة الأصيل الكرسى الطويل إلى الشرفة وتضع حوله المنضدة الصغيرة والماء المثلج .. فيجلس مستريحا .. ويتحدث فى حرية وقوة ..
وكانت سنية عذراء فى الثانية والعشرين .. وقد جاءت إلى الأستاذ من الريف .. وكانت ذكية فتحضرت فى وقت قصير وعرفت أنها تعيش مع أستاذ عظيم .. وأن معارف الأستاذ هم خلاصة الذكاء البشرى ..!! فكانت تحفظ أسماء من يسأل عنه فى التليفون .. وتجلس مع من يحضر فى غيابه .. فى الصالون الصغير وتقدم له القهوة .. فى سرعة .. و .. وتجيب على أسئلته .. بصوت ناعم مهذب وكانت من إقليم المنصورة .. بيضاء لفاء العود .. حلوة التقاطيع .. على خدها الأيمن شامة سوداء فى حجم حبة العدس .. تزيد وجهها المستدير فتنة .. وكانت عيناها خضراوين ناعستين .. وشفتاها فى لون حبة الكريز ..
***  
وعندما رأت الأستاذ لأول مرة بذقنه الوجودية .. القصيرة .. المدببة .. ووجهه اليابس المتأمل .. نفرت منه ثم ما لبثت على مر الأيام أن استراحت إليه فترك لها شئون البيت كله .. وجعلها تحس أنها سيدة وليست خادمة .. على أنها كانت تشعر بالقلق والتوتر العصبى فى كثير من الأحيان .. لأن الأستاذ يبقيها دائما فى البيت .. محبوسة معه .. لتصنع القهوة والشاى لتلاميذه .. ولا يجعلها تخرج إلى الحياة البهيجة فى الخارج ..
وكانت قد تطورت منذ عام واحد من وجودها فى القاهرة .. وأصبحت مدنية فى ملبسها وحديثها .. فارتدت الفساتين القصيرة والأحذية العالية وتركت شعرها من غير منديل تعصبه به أو طرحة تلقيها على رأسها .. وحفظت أكثر من عشرين كلمة فرنسية وإنجليزية وإيطالية ..
وكان الأستاذ لا يعنيه من الحياة غير كتبه والرسالة التى يؤديها فى الحياة .. وهى نشر فلسفته بين تلاميذه .. وخلق جيل من الشباب يميل إليها ويتعلق بها لذاتها .. لا لشىء آخر .. شباب يعيش للعلم وحده ويفهم مستقبل الجنس البشرى ..
وكان يسره أن أتباعه يتزايدون .. حتى غدا صالونه الصغير يضيق بهم ففتح لهم باب المكتبة المتصل بالصالون على مصراعيه .. وازداد صوته حماسة وهو يتحدث .. وقوة ..
وكانت سنية تتضايق أول الأمر من  هؤلاء الزوار الكثيرين .. فلما رأت من بينهم شبانا فى سن العشرين .. ينظرون إليها بعين المحروم .. ويودون أن يأكلوا يدها وهى تقدم لهم القهوة .. استراحت .. وشعرت بلذة الأنثى .. عندما ترى الرجال يغازلونها خفية ..
ومرت الأيام وهى تشعر بلذة لهذة المغازلة .. وكانت ترضى بذلك أنوثتها .. إذ أن الأستاذ منصرف عنها بكليته إلى كتبه وفلسفته أما هؤلاء .. فهم يعتبرونها أنثى فقط .. ويحدقون فيها بشراهة ويلتهمون جسمها .. ويجردونها بنظراتهم من ثيابها ..
واستمرت هذه اللذة الخفية المتبادلة بين هؤلاء الشبان وبينها
*** 
وذات مساء .. جاء التلاميذ كعادتهم فلم تفتح لهم سنية الباب .. وفتحه الأستاذ بنفسه .. وجلسوا أكثر من ساعتين لتدخل عليهم سنية بالقهوة .. ولكنها لم تأت .. وانصرفوا آخر الليل .. وهم يشعرون بالضيق ..
وفى اليوم التالى جاءوا فلم يروا سنية أيضا ..
ومر أسبوع .. وهم يجيئون .. ليروها .. فلا يجدوها .. ولا يجرأ واحد منهم على سؤال الأستاذ عنها ..!! وظلوا فى حيرة وقلق ..!!
***
وذات يوم .. قدم لهم القهوة .. شاب أسمر .. وعلموا .. منه أنه الخادم الجديد للأستاذ .. وأن سنية تركت الخدمة لتتزوج ..!
وفى اليوم التالى لم يحضر أحد من تلاميذ الأستاذ .. ليستمع إلى دروس الفلسفة ..
وجلس الأستاذ وحده فى الشرفة يشرب القهوة المركزة .. وينظر إلى الأفق اللازوردى .. ويحادث خادمه النوبى عن فلسفة برجسون وسارتر .. ويذب الذباب عن وجهه ..
=======================  
نشرت القصة فى ص . الجمهورية بالعدد 297 بتاريخ 4/10/1954 وأعيد نشرها فى كتاب " زوجة الصياد " سنة 1961
========================  






















الأحدب
      


تقع بناية المسلة فى قلب القاهرة وعصبها .. ففى التقاطع بين شارع عماد الدين وشارع عدلى وفى حى تجارى عامر بالنشاط والحركة ترتفع عمارة ضخمة على أحدث طراز فى فن المعمار ..
وعلى افريزها الدائرى .. المنقوش بالزخارف الأرضية .. يقف ثلاثة من عساكر المرور بزيهم الرسمى وأكمامهم البيضاء لتنظيم حركة السيارات فى الطريق وتحصيل الغرامات من المشاة الذين يعبرون المعبر فى هذا الحى المتألق ..
وكانت هذه العمارة منذ سنة واحدة .. بناية قديمة .. أكلت جدرانها الرطوبة وسعفت أعاليها ريح الزمان .. فرأى صاحبها أن يسويها بالأرض .. وأقام محلها بناية عالية من ثلاثة عشر طابقا .. وأصبح برجها يدور مع الشمس ..
ولموقعها الحيوى وروعة مبانيها .. أجرت كلها للتجار وأصحاب الحرف والسكان فى فترة وجيزة قبل أن يدخلها النور الكهربى .. وتدور المصاعد ..
وإذا ولجت من الباب الكبير فى الساعات المبكرة من الصباح .. الفيت المدخل كخلية النحل ..
وتجد فى الطوابق الأربعة الأولى كل ما كان يخطر لك على بال .. تجار السيارات والساعات .. وموزعوا العدد الكهربية والآلات الدقيقة .. والمأكولات المحفوظة .. والأدوية والترزية .. ومحلات التجميل .. وتطالع لافتات صغيرة .. وكبيرة من كل الأحجام .. " ناهد وعدنان وشركاهما " تجار بالجملة والقطاعى .. وشركة الشحن العامة محسن وشركاه مستوردون ومصدرون .. وشركة الزهرة التجارية وشركة التخليص الأهلية .. واستوديو حواء .. ومصور النجوم .. ومحلات أحذية رمسيس .. ورستم وشركاه تجار حدايد وبويات .. ثم شركة رشاد لتصليح أجهزة التليفزيون .. والشركة الكهربية الحديثة .. وشركة أبو الهول للساعات والمنبهات .. ومعهد زيزى للتجميل .. وستوديوهات بارى للسينما .. وشركة جعفر للكاوتشوك ..
وبعض هذه المحلات يشغل غرفة واحدة وبعضها يشغل حاجزا فى المدخل .. وللضغط الشديد على العمارة كثر التأجير من الباطن وحولت الشقة الصغيرة إلى شقتين وثلاث .. !!
وإذا اجتزت العمارة يأخذك بريق المدخل الرخامى .. والزجاج فى الأركان وعلى الحوائط يعكس وجوه الداخلين ..
وعلى الرغم من وجود أربعة مصاعد فإن الداخلين فى العمارة كانوا يستعملون السلم فى معظم الأحوال .. وعلى الأخص إذا قصدوا الأدوار الثلاثة الأولى ..
والطابق الخامس وما يليه من الطوابق فى هذه العمارة الضخمة يشعر سكانها بروعة الحياة حقا .. ففيها مساكن هادئة وجميلة .. وتطل شرفاتها ونوافذها على قلب القاهرة الذى يتلألأ بالأنوار فى الليل كأنه الدر المنظوم .. على صدر أجمل حسناء ..
وكان هناك ترزى للسيدات يشغل شقة من هذه الشقق الجميلة .. كان بالطابق السادس من العمارة .. وكان الارتفاع بالنسبة له لا يغير من وجه المسألة ولا يضر عملائه لوجود " الأسانسير " .. ولأنه مشهور بعمله المثالى المتقن .. ومحدود الزبائن .. وزبوناته من طبقة غنية وخاصة ..
وكان هذا الترزى قد تعلم التفصيل فى باريس وأصبح له مقصا ذهبيا وكان معروفا بحذقه ومهارته .. وعنده ثلاثة من العمال فقط .. شاب أحدب .. وفتاتان ..
   وبعد الساعة التاسعة .. وكانت ليلة من ليالى الشتاء شديدة البرودة .. سمع العامل الأحدب نقرة على زجاج الباب .. وكانت الفتاتان قد ذهبتا إلى بيتهما .. فرفع رأسه واهتزت أعصابه .. إذ أن الجرس الكهربى يعمل .. فمن الذى ينقر على زجاج الباب .. لم يتحرك من مكانه .. وعاد السكون ..
ولم يكن قد أحس بتسلل الليل .. فمنذ الساعة الثامنة والنصف وهو جالس فى تراخ فى المحل وحده ..
وكان ضوء المصباح يغمر شعر رأسه .. وفجأة سمع وقع أقدام فى الممر الخارجى .. وكان فى الواقع يشعر بهذه الأقدام .. قبل أن يسمعها ويدركها بحواسه من طول ما ألف تحركها فى البهو واقترابها منه .. وبعدها عنه ..
وكان يفكر وهو مغمض العينين فى أن صاحب المحل قد يكون رجع الآن من " البروفة " التى ذهب ليجريها لسيدة تسكن فى الزمالك ..
ولكن صاحب المحل لم يدخل عليه بالمفتاح الذى معه كما اعتاد أن يفعل .. وظل منصتا وسمع رنين الجرس .. وفى هذه المرة .. سمع ضغطة مفزعة كان لها صدى ورنين فى داخل الشقة ..
فتثاءب الأحدب ومضى إلى الباب ..
ولما فتحه .. وجد سيدة على العتبة .. وعلى معطفها رشاش المطر .. ودخلت السيدة على التو .. وهى تقول :
ـ مساء الخير يا فرحات .. الأسطى موجود ..؟
ـ أيوه تفضلى يا هانم ..
فخلعت معطفها وجلست تمسح ما علق به من الماء ..
وعاد الأحدب إلى مكانه وعمله .. فى ركن من الغرفة .. ومرت فترة انتظار .. فرفعت السيدة رأسها وسألت :
ـ هو راح فين ..؟
ـ فى مشوار قصير .. حالا يرجع ..
ـ بروفة ..؟
ـ أيوه .. عند مديحة هانم ..
ـ والبروفة بتاعتى جاهزة ..؟
ـ أيوه يا هانم .. والميعاد كان امبارح .. والأسطى انتظر حضرتك لغاية الساعة عشرة ..
ـ ما قدرتش آجى .. كان عندى حفلة .. وحاولت أتصل بالتليفون ما أمكنشى .. كان تليفونكم بيرن .. باستمرار ..
ـ كان معطل امبارح طول اليوم .. مفيش حرارة من المطر ..
ـ يمكن .. لكن النهاردة رجعت الحرارة .. 
وأخذت شريفة هانم تقلب بصرها فى مجلات الأزياء التى على الطاولة ..
وأخذ فرحات يشغل نفسه بالنسيج الذى فى يده حتى نسى نفسه .. ونسى وجود السيدة معه فى مكان صغير مغلق الأبواب ..
وسألته بعد لحظات :
ـ الساعة بقت كام ..؟
ـ تسعة ونصف ..
ـ ضرورى ييجى ..؟
ـ ضرورى .. جدا .. عنده شغل ..
ـ لسه بتمطر ..؟
ـ زى السيل .. أنا سامع صوت المطر ..
ومالت برأسها كأنها بتسمع ..
ـ دا صحيح ..
كان صوت المطر يسمع بوضوح فى الخارج .. وهو يضرب على زجاج النوافذ وأسطح البيوت المجاورة ..
وكان جو المطر فى الخارج قد أشاع جوا من الجمود والصمت فى داخل الشقة ..
وكان فرحات يعمل الابرة بيديه فى النسيج ويركز عينيه على موضعها فى حركة رتيبة أصبحت بحكم مرانه آلية بحتة .. آلية لا تحرك مشاعره .. ولكنه كان من حين إلى حين وفى الفترة التى يغير فيها من وضع الخيط أو يلضم الابرة .. ينظر إلى شريفة هانم .. نظرة حادة .. نظرة قوية مركزة ..
وكان منذ رآها لأول مرة منذ عدة شهور .. فى الصيف المنصرم .. يحس برجفة ونبرة قوية فى أعصابه ..
كانت تستلفت نظره بجمالها .. وبالجواهر التى تحلى بها صدرها .. كانت تحلى جيدها بعقد من الماس .. وكان كلما رآه يتألق على صدرها يرتجف .. ويفكر فى عمل شىء .. شىء ما يصرخ فى أعماقه .. ولكنه كان يجبن ويرجع عن عزمه .. لوجود صاحب المحل .. أو احدى الفتيات العاملات به .. فإنه لم ينفرد بها قط .. إلا فى هذه المرة .. والمطر يقرع النوافذ .. وبرد الشتاء يهرى الأبدان ويهزها .. اهتز بدنه .. وشعر برجفة فى أعصابه .. كان يشعر بالضياع .. قد ترك المدرسة الابتدائية واشتغل عند حائك ثياب .. لأنه فقير وأحدب ..
ولو لم يكن فقيرا لما كان أحدب .. ربما استطاع والداه لو كانا من ذى الثراء أن يذهبا به عند جراح يقوم اعوجاج ظهره .. ولكنهما فقراء .. ونشأ أشد فقرا منهما وصورت له أحلام المراهقة ما يمكن أن يعود عليه ويجنيه إذا ما حصل على هذا العقد الذى على صدر شريفة هانم بطريقة ما .. فإنه سيتخلص من عذاب طويل سيتخلص من الذلة والإرهاق البدنى وتعب البصر .. سيتخلص من فظاعة صاحب المحل وخشونة طباعه .. سيتخلص من السهر .. ومن النوم فى حجرة رطبة لاتدخلها الشمس .. ومن الاستيقاظ المبكر .. وركوب الترام .. وحشر نفسه بين الركاب كعلب السردين .. ودفعهم بيديه القويتين بعيدا عنه .. سيتخلص من هذه الأشياء كلها لأنه أصبح يكرهها .. ويسافر إلى الإسكندرية .. أو إلى أية مدينة كبيرة ومن يعرفه فيها .. أنه سيصبح قطرة فى محيط ..
وكان خياله المجنح يسبح فى عالم كله أحلام جميلة .. عالم بهيج مشرق ملىء بالمتع .. عالم خال من الحرمان ومن الفاقة ومن البؤس الأسود ..
عالم يحول جسمه من التشويه والحدب والدمامة التى هو عليها .. إلى شىء آخر جميل ومتناسق ..
ورن التليفون .. فرفع الأحدب السماعة ..
وكان المتحدث هو صاحب المحل ينبئه بأنه لن يأت الليلة إلى المحل لأنه ذاهب إلى بيته مباشرة .. وعليه أن يغلق الشقة متى فرغ من عمله ويروح ..
وشعر الأحدب بفرحة .. ولكنه كتم الأمر عن شريفة هانم .. ووضع السماعة سريعا .. وأخذ عقله يعمل بسرعة لينفذ ماكان يفكر فيه من قبل .. 
***  
وكانت شريفة هانم جالسة على المقعد الطويل مسترخية .. وواضعة ساقا على ساق وهى تدخن فى لذة وقد كشفت جلستها عن مفاتن جسدها .. وظهر القميص الحريرى الداخلى تحت الفستان الصوفى القصير .. 
ولاحظت نظراته ولكنها لم تغير وضعها .. إنها تكشف عن مفاتنها أمامه كلما جاءت إلى هنا دون أن تحسب له حسابا .. كأنه فى نظرها أنثى .. أو خصيا .. أو ليس برجل على الاطلاق .. وكان هذا يثير غضبه .. ويحز فى نفسه ..
وحرك يديه القويتين فى غضب .. كانت قوته كلها موضوعة فى يديه .. وحركها ليريح أعصابه المتوترة ..
كانت شريفة هانم تثيره كلما رآها لم يكن يعرف لذلك سببا بعينه .. كانت تثيره .. تهز أعصابه فى عنف وكأنه يشعر بالفرق الصارخ بين جمالها ودمامته .. وغناها وفقره ..
كانت شريفة هانم سيدة فى حوالى السابعة والثلاثين من عمرها وقد تزوجت أربع مرات .. وطلقت فى كل مرة .. بعد شهور من زواجها .. كانت ناعمة ذات دلال ولم تكن تطيق عشرة رجل واحد .. ولم تأت فى خلال زواجها بذرية .. فكانت طليقة ووحيدة ..
وقد جعلها عدم الحمل تحتفظ بقوامها الجميل كابنة العشرين .. ولولا سهرها ولعبها أحيانا القمار .. لكانت فتنة فى النساء .. ولما ظهرت بعض الغضون التى أخذت تظهر على وجهها ..
وكانت مستديرة الوجه .. رقيقة الشفتين .. تعجب بقوامها .. وتعجب بمفاتنها ويسرها أن تتأنق فى ملبسها .. وكانت تسرف فى ارتداء الثياب الفاخرة ..
وسألت الأحدب وهى تطيل النظر إليه :
ـ الأسطى اتأخر .. أقدر أشوف الفستان ..؟
ـ تفضلى ..
ومشى وراءها فى الممر الملتوى ثم دخل إلى الغرفة الداخلية التى خصصت لعمل البروفة ..
وأحس بعطرها القوى وأنفاسها وأراها الفستان .. من فوق الشماعة .. فنظرت إليه فى فرحة ..
ـ إنه رائع حقا .. عاجبك القماش ..؟
ـ دا شىء جميل .. مش موجود منه .. فى السوق دلوقت ..
ـ جابتهولى عديلة هانم من باريس ..
ـ طبعا .. مفيش منه هنا أبدا ..
ونظرت شريفة هانم إلى المرآة طويلا .. ثم نظرت إلى الأحدب .. وردت بصرها إلى ثوبها ..
وسألت الأحدب فى دلال :
ـ طيب أقدر أقيسه ..
ـ تفضلى .. بس لازم تيجى تانى علشان يشوفه الأسطى محمد عليكى ..
ـ وأنت ماتعرفشى ..
فاحمر وجهه .. ولم ينبس .. وكان عطرها فواحا .. مثيرا ..
وتبخترت قليلا .. رائحة وغادية فى المكان الضيق .. ونظرت إليه بعينيها كأنها تطلب منه أن يبتعد .. لأنها ستخلع ثوبها فخرج من الغرفة الصغيرة ودخلت وراء الستارة ..
وكان قلبه يرتجف كالمطرقة .. والعرق قد أخذ يظهر على جبينه .. ورآها من الفرجة الصغيرة .. وهى تهم بخلع ملابسها فى تؤدة .. ولا تزال تنظر إلى المرآة كأنها معجبة بنفسها ..
وعندما رفعت الفستان وبصر برأسها يغطيه الثوب كله ويلفه اندفع إليها كالقذيفة وضربها بقوة بشىء حاد فى يده فسقطت على الأرض وأمسك بعنقها وهى ملفوفة وضغط عليه بيدين من الفلاذ وظل يضغط حتى كتم أنفاسها تماما .. 
ونزع عقدها بسرعة .. وكل ما فى يديها .. من جواهر وأطفأ نور الشقة وأغلق الباب ونزل مسرعا إلى الطريق وهو لايلوى على شىء ..
وكان المطر مازال ينهمر .. والمصابيح تلمع فى أرض الشارع ..
وعندما بلغ نهاية الشارع واختلط بالناس المهرولين فى الطريق ..
ابتدأ يفوق إلى نفسه .. ويدرك فظاعة جرمه .. وتصور أن الناس جميعا يطاردونه فأسرع ..
وظل كالمجنون يدور فى الشوارع والمطر يلاحقه حتى تبللت ثيابه تماما وكان ممسكا بالعقد والجواهر الأخرى فى جيبه ..
وكان عقله الباطن يدفعه إلى الابتعاد عن الحى كله ..
وأخيرا وجد نفسه يتجه إلى المحطة ..
ودخل من الباب الخارجى ومشى فى الفناء الداخلى وعيناه تنظران إلى ماحوله فى شرود ووجد قطارا على الرصيف يدخن ثم وجده يتحرك .. فاندفع وراءه يجرى بكل قوته .. قبل أن يقطع التذكرة ويعرف الجهة التى يقصدها القطار ..
واصطدم فى عربة صغيرة من عربات الحمالين .. وسقط على الرصيف وسقطت المجوهرات التى فى جيبه .. وتناثرت على الأرض وهى تبرق ..
وجرى إليه عامل الباب وبعض الموظفين فى المحطة وتبعهم جموع المسافرين .. والتفوا حوله كحلقة من حديد .. وظلت الحلقة تضيق حتى لم يستطع حراكا وظل فى مكانه ساقطا على الأرض والمجوهرات حوله وهو ينظر إلى الناس فى شرود دون أن ينبس ببنت شفة ..
====================== 
نشرت القصة فى مجلة الجيل بالعدد 483 بتاريخ 27/3/1961 وأعيد نشرها فى كتاب " زوجة الصياد " سنة 1961
======================       



























وحوش



حدث فى ليلة من ليالى الخريف أن ركبت الأتوبيس رقم 29 من شارع 26 يوليه .. وكان مزدحما وليس فيه موضع لقدم .. ودفعت ابنتى الصغيرة أمامى حتى توسطنا ممشى العربة .. وأخذت السيارة ترجنا بعنف فسقطت ابنتى على أرض العربة .. ولاحظت امرأة كانت جالسة على مقعد قريب ذلك .. فأشفقت على الفتاة وتناولتها منى وأجلستها فى حجرها .. وتركتها وشغلت بالنظر إلى الطريق وبالنازلين من السيارة والصاعدين إليها حتى اقتربنا من غمرة .. وهنا نزل كثير من الركاب وتكشفت أمامى العربة ووجوه الراكبين فيها ولاحظت أنهم ينظرون إلى السيدة التى أخذت ابنتى ويبتسمون .. فلما تحولت إليها لاحظت أنها ترتدى ملابس فاضحة وأنها أكثرت من الأصباغ والمساحيق وأن الناظر إليها يحسب أنها من بنات الهوى ..
 فشعرت بالخجل وأنا أتصور نظرات الركاب وهى تتحول إلىّ وتتركز على شخصى إذا حادثت ابنتى أو أبديت لها مجرد اشارة إذ سيتصور الركاب فى الحال أن هذه المرأة زوجتى .. وتحت هذا الكابوس من الخواطر وقفت صامتا أخرس وعجزت عن كل حركة ..
وخلا كرسى فى نهاية العربة .. وهممت بأن أنادى على ابنتى وأذهب إلى هناك .. ولكننى عندما نظرت إلى المرأة أشفقت عليها من هذه الفعلة فقد كانت تحتضن الفتاة فى حنان طبيعى ..
وكان كل راكب جديد ينظر إلى هذه المرأة بقوة ويجردها بنظراته الوقحة من ملابسها وكل نازل يشيعها بنظرة وابتسامة وكلمة نابية ..
وكانت صامتة وتنظر إلى الأمام فى خط مستقيم .. وفى وجهها أسى أخرس .. وكانت عيناها حزينتين ويلفهما ضباب كأنها لاترى ما حولها .. ولا تسمع شيئا .. وكنت ألاحظ أن شفتيها ترتجفان أحيانا رجفة خفيفة كأنها تود أن تجد انسانا لتحادثه .. ثم تعدل عن هذه الفكرة وتلوذ بالصمت القاتم .. وهى تدور برأسها نصف دورة إلى النافذة ..
وكنت أقف قريبا منها ولكننى لم أنظر إلى وجهها قط .. رأيت شعرها وخط جيدها من الخلف ..
وقبل أن نعبر نفق العباسية أشعلت سيجارة .. وكانت طريقتها فى امساك السيجارة واشعالها تدل على احتراف أصيل .. وأراح الدخان أعصابها فقد أخذت تحادث ابنتى وتلاعبها .. وفى أول مصر الجديدة صعد بائع إلى السيارة .. وفتحت المرأة حقيبتها واستطعت وأنا خلفها أن أنظر إلى جوف الحقيبة فوجدتها خاوية .. ولكنها ظلت تبحث فيها بيد مرتعشة .. وأخيرا عثرت على قرش وأعطته للبائع .. وكان هو كل ماكان معها .. وتناولت منه قطعة صغيرة من الشيكولاته وقدمتها لابنتى وهى باسمة ..
وفى تلك اللحظة صحت فى توحش :
ـ بثينة .. تعالى هنا ..
ونهضت بثينة مذعورة وسقطت منها الشيكولاته فى أرض العربة ..
ونظرت إلى المرأة فى هذه اللحظة .. وقرأت الدهشة فى عينيها والغضب الأسود ..
وعندما جاءت إلىَّ بثينة أخذت أنظر إلى قرطها وأتحسس القلادة الذهبية التى فى عنقها .. وقلت لها :
ـ فين المصحف ..؟
ـ أهو يابابا .. مالك ..
وسمعت المرأة حديثى .. ونظرت إلىّ مرة أخرى وابيض وجهها ..
وجلست صامتا .. وخيم السكون .. ونزل معظم الركاب .. ولما اقتربنا من المحطة النهائية .. نهضت وأنا اتجاهل المرأة تماما .. لم أوجه إليها كلمة شكر واحدة ..
وكانت ابنتى قد تعبت من المشوار فنامت .. فانحنيت وحملتها على صدرى .. وأمسكت الأشياء التى معى بيدى .. ونزلت من السيارة .. ولكنى بعد بضع خطوات سقطت منى بعض الحاجات .. فأنزلت ابنتى .. وأحكمت وضع الأشياء فى يدى .. وحملت بثينة وسرت فى الطريق وقبل أن أخطو كثيرا .. سمعت من يقول ورائى ..
ـ حوش .. فيه حاجة وقعت هناك ..
فتلفت فوجدت المرأة نفسها .. تشير إلى محفظتى على الأرض ..
وانحنيت والتقطت المحفظة .. وعندما قلت لها :
ـ أشكرك ..
لم تسمعنى .. فقد مضت وحدها فى الشارع الكبير .. وكانت تسير فى دائرة الظل مبتعدة عن الأضواء والناس ..
======================== 
نشرت القصة فى م . الرسالة الجديدة بالعدد 25 بتاريخ 1/4/1956 وأعيد نشرها فى كتاب " زوجة الصياد " سنة 1961
======================== 
 










                                  عابر سبيل



كان بصيص من النور يلوح أمامه على مدى الأفق فاتجه إليه وهو فى أقصى حالات الاعياء والجوع .. لقد قضى النهار كله يمشى دون توقف فى قلب الحقول ليتفادى الطرق الزراعية المألوفة وعيون الناس .. قطع مسافة طويلة وهو فى خوف دائم كان مجرد الاحساس بأنه سيقع مرة أخرى فى أيدى العساكر يصيبه بالرعب .. شعر عباس بقيمة الحرية بالنسبة له كإنسان لأول مرة فى حياته بعد أن أفلت وملأ رئتيه بأنفاس الحياة الطليقة ..
ولسبعة شهور خلت وهو يفكر فى الهرب منذ وضع فى الزنزانة .. كان يود الافلات بكل سبيل ولكنه لم يوفق وهو فى داخل السجن .. فلما خرجوا فى بكرة الصباح يعبدون الطريق الملاصق لترعة الابراهيمية بين تل العمارنة ودير مواس .. انبثقت الفكرة عن شىء يمكن تحقيقه على التو وأخذ بعين الصقر يراقب ما حوله .. الأشجار وغيطان القصب والقمح والبرسيم .. والأرض المكشوفة التى ستجعله لو فر تحت مرمى الحارس بسهولة وأخيرا اختار المكان ..
وتحين الفرصة عند رش الجسر من ماء الترعة .. فلما نزل بالجردل إلى الماء أخذ يقيس بنظره أبعاد الترعة وتيقن وهو يديم النظر فى سكون أن فى استطاعته أن يعبرها غاطسا لو اقتضى الحال ..
وانتظر حتى رأى وهو ينحنى على الترعة وبيده الجردل ثلاثة لوريات كبيرة فوقه فى الطريق تحجب عنه رفاقه ..
وكان الحارس مشغولا بمحادثة سائق من اللوريات فتوقفت القافلة تسد الطريق فاندفع عباس إلى الماء بكل قوته وغطس ..
وراح فى الدوامة ولم يحس بشىء ولم يسمع صوت النار فوق رأسه كما قدر ولم ينتبه الحارس لفراره إلا بعد أن فات الأوان وأفلت وعبر شريط السكة الحديد وسار يهرول إلى أن اعترض طريقه حقل من حقول القصب فدخل فى جوفه وغاب فيه حتى أصبح العثور عليه مستحيلا ..
وكان يضايقه أنه يلبس ملابس السجن فخلع الصدار وكوره وألقى به فى الحقل وبقى بالقميص والسروال .. وخرج من الحقل .. وهو يفكر كيف يعثر على ثوب حتى وجد جلباب فلاح ولبدة كان قد خلعهما ونزل إلى الساقية .. فلبسهما وأسرع يجتاز غيطان القمح والبرسيم المروية جديدا كأى فلاح من المنطقة وأحس ببعض الاطمئنان لما خلع ملابس السجن ولكن حاسته المرهفة ظلت تبعده عن الطريق المألوف للسيارات وعن شريط السكة الحديد .. وكان يشاهد القرى من بعيد ولا يدخل إلى دروبها .. فقد وقع فى تقديره أن اشارة لابد طيرت إلى مراكز البوليس وعمد البلاد ونقط المرور .. تحمل خبر فراره وظل يسير حتى تبين أنه ابتعد جدا وأنه أصبح قريبا من مدينة المنيا ..
ودخل عليه الليل وخيم الظلام وأحس بالتعب والجوع الذى يمزق الأحشاء فجلس على الأرض وظل فى العراء يبحث عن شىء يسد به رمقه مما تنبت الأرض ولكن ذلك لم يدفع عنه غائلة الجوع .. وقر قراره على أن يستريح فى مكانه وفى الصباح يستأنف تجواله إلى أن يبلغ القاهرة حيث يحط فيها الترحال وهناك يستطيع أن يتخفى فى أمان وأن يغيب فى زحمة الجماهير ..
ولمح وهو جالس بصيصا من النور يتحرك عن بعد ثم اختفى سريعا .. فاتجه بحاسته الريفية إلى ناحيته .. ولما اقترب من البيت الذى شاهد الضوء على سطحه لم ير شيئا ولم يسمع فى جنباته حسا فظل فى مكانه يحدق فى العتمة وهو فى أشد حالات الجوع .. وانقضت ساعة كاملة وهو قابع فى مكمنه يحس بأنفاس الزرع حواليه .. وتيقن أن البيت مهجور وأن الضوء كان سرابا .. وفى اللحظة التى فكر فيها أن يبحث عن ملجأ آخر يقيه من الجوع والبرد مر بجواره غلام يسوق جاموسة .. فسأله :
ـ قرية من هذه ..؟
 فرد الصبى فى الحال وعلى وجهه البراءة ..
ـ صفط اللبن ..
ـ قريتكم اسمها جميل ..
وضحك الغلام ..
وسأله عباس :
ـ وبيت من هذا ..؟
ـ بيت محفوظ .. خفير وابور الطحين ..
ـ موجود ..؟
ـ لا .. أنه مسافر .. سافر إلى مصر ..
ـ ولا يوجد بالداخل أحد ..؟
ـ زوجته نفيسة .. موجودة .. هل تريد شيئا ..؟
ـ سمعت أن عندهم عجلة للبيع ..
ـ ومن أين أنت قادم ..؟
وأسقط فى يده .. فقد كان لايعرف اسم أية قرية فى هذه المنطقة وأخيرا تذكر قرية أثرية قرأ عنها فى كتب التاريخ أيام الدراسة فرد على الغلام :
ـ من منسافيس ..
ـ منسافيس .. حسبتك من البرجاية .. ولماذا لا تذهب إلى سوق السبت ..؟ فالعجول هناك أرخص ..
ـ سأذهب .. إذا لم أعثر على بغيتى هنا ..
وسحب الغلام جاموسته ومضى ..
وتقدم عباس نحو البيت .. وقبل أن يصل إليه برزت امرأة فى ثوب أسود وقد عصبت رأسها بمنديل أزرق تتدلى من جوانبه حبات صغيرة من الخرز " ملقط " مما يستعمل فى علف الماشية أو رمى الحب للدواجن .. وظل يحدق فيها من بعيد وهو متوجس ولما توضح ملامحها وبدت له شابة وفيها وداعة .. اقترب من الباب ولم تجفل المرأة لرؤيته فى الليل كأنها اعتادت على لقاء الغرباء ..
وحدق فى وجهها مليا ثم قال وفى صوته ضعف الجوع ..
ـ هل عليان موجود .. يا ست ..؟
ـ عليان مسافر ..
ـ وسيرجع الليلة ..؟
ـ سافر لروض الفرج .. أخبره ناظر المحطة توفيق أفندى أن أخاه عبد المقصود فى حالة خطرة فأخذ قطار الليل وسافر ..
ـ ومتى يعود ..؟
ـ بعد يومين أو ثلاثة .. هل تريد منه شيئا ..؟
ـ يا ستى أنا تاجر غلة صغير فى المنيا .. وجوزك اشترى منى كيلتين برسيم فى الموسم .. ودفع جنيها واحدا .. ولم يسدد باقى الثمن .. وقد أرسلت له مراسيل كثيرة دون نتيجة وأخيرا رأيت أن أجىء بنفسى ..
وتذكرت نفيسة أن زوجها تعب كثيرا فى الموسم الماضى حتى حصل على حاجته من تقاوى البرسيم .. لأنه شح وأصبح قليل الوجود وارتفع ثمنه جدا ..
واستاءت لأن زوجها لم يدفع للتاجر الصغير الثمن وظل يماطل إلى أن قدم الرجل الغريب بنفسه ..
وقالت بشهامة :
ـ حاضر .. عندما يرجع زوجى .. سأذهب معه إلى المنيا وندفع لك نقودك ..
ـ شكرا .. أرجو أن تسقينى ..
فدخلت سريعا .. وعادت تحمل له الكوز ..
وشربه بتمهل .. وناولها الكوز ويده ترتعش ..
فسألته :
ـ هل أنت مريض ..؟
ـ أبدا .. لقد مشيت كثيرا .. ضللت الطريق إليكم .. وتعبت ..
وظلت نفيسة واقفة فى مكانها من العتبة والباب نصف موارب .. والكوز فى يدها .. وسألها :
ـ هل أجد دكانا عن قرب لأشترى سجائر ..؟
ولم يكن فى جيبه مليم واحد ..
ولكنه ألقى السؤال .. وظل ينتظر جوابها وهو معلق الأنفاس .. فقد أحس بالرغبة الشديدة فى التدخين ليدفع عن رأسه الصداع ..
ـ لا توجد دكاكين قريبة من هنا .. وسآتى لك بسيجارة .. نسى زوجى العلبة فى الطاقة ..
ولما أشعل السيجارة تنبهت حواسه أكثر ..
وظل فى مكانه يدخن وسمع حركة حواليه فتلفت كالأرنب المذعور .. ولما استيقن من عدم مرور أحد رجع إلى نفسه وكانت المرأة فى تلك اللحظة قد دخلت البيت ثم عادت وعلى رأسها طرحة أدارتها حول جيدها فزادت الطرحة من اشراق وجهها وبهره جمالها ..
فمنذ سنوات كان موظفا فى تفتيش الرى بالقناطر وأحب فتاة فى مثل حسن هذه وأراد أن يتزوجها ولو تزوجها لاستقام حاله وتغير نهج حياته .. ولكنها ردته فبقى أعزب وأخذ يتنقل فى البلاد .. سوهاج .. وأسيوط .. والمنيا .. والواسطى ..
وعاش كالضال .. وكان التيه يدفعه من سىء إلى أسوأ .. وأخيرا أحب راقصة فى ملهى وأخذ يصرف عليها المال دون حساب حتى امتدت يده إلى نقود الحكومة ودخل بسبب ذلك السجن ..
ولكن الشهور التى قضاها فى السجن .. طهرت روحه .. وردت إليه عقله الذاهب وفكر أن يهرب ويبدأ حياة جديدة ..
***  
وقد هرب وبدأ حياته الجديدة فعلا ونظر إلى نفيسة فألفاها لاتزال واقفة على بابها فى العتمة فاستحيا أن يجعلها تقف هذه المدة الطويلة .. واستدار ليمشى .. وسمع وهو يستدير حوافر خيل .. فاشرب برأسه وحدق فى الظلام .. فتبين أن داورية من الخيالة تتحرك فى اتجاهه فانتابه ذعر شديد وحاول أن يخفى اضطرابه عن المرأة .. وأحس بالعرق يتصبب وبالأرض تدور به .. وقبل أن يسقط فى مكانه جرت إليه نفيسة واعتمد على ذراعها وأدخلته بيتها وردت الباب ..
وعندما وجد نفسه فى مجاز البيت والباب موصدا استرد أنفاسه ..
وقالت :
ـ أنت جائع ..؟
وهز رأسه بالإيجاب لم يستطع النطق واجتازت المجاز سريعا .. وعادت تحمل إليه طبقا من العسل الأسود وبتاوات عليها قطعة من الجبن .. فأخذ يأكل بنهم ولما شبع رفع يده عن الطعام وظل جالسا محنى الرأس فترة وحواسه مسلطة على الخارج .. ولما رفع رأسه وأخذ يدور ببصره فيما حوله .. شاهد المرأة جالسة هناك على السلم المؤدى إلى السطح وهى تتطلع إليه فى صمت ..
وكان ضوء المصباح البترولى الصغير يرسل من الطاقة أنوارا باهتة .. وبدت بقرة شهباء واقفة فى زاوية من الفناء .. وأمامها العلف .. وفى الجانب الآخر نعجات ودجاج وبط قد احتمى فى الدريس من البرد ..
وانتصبت صومعة للغلال وبجانبها مدراة وفأس .. وجاروف كبير مما يستعمل فى الأرض .. وفى ناحية علقت ملابس الزوج على حبل قصير من الليف ..
وكان هباب المصباح البترولى يغطى الجزء الذى فوق الطاقة ويمتد فى دوائر حتى يصل إلى السقف ..
ولما لم يسمع عباس حسا فى داخل البيت ولاحظ الجو المحيط كله أدرك أنه بلغ المأمن الذى يبغيه ..
وتطلع إلى المرأة فألفاها جالسة هناك تحدق فيه .. ولاح شىء أشبه بالخوف على وجهها .. ثم عادت أساريرها فاطمأنت واكتسب الطابع الأول الذى لاقته به ..
وكانت الطرحة لاتزال تغطى شعرها الطويل الأسود الشديد اللمعان .. والثوب يبدو فى ثنيات على صدرها ويدور فى خط كالحزام فوق خصرها .. وبدا الوركان من تحت الثوب وهى منحنية قليلا إلى الأمام مكتنزان المسان ..
وكان الصدر البارز يدفع الثوب إلى أعلى .. وبدا عقد طويل أصفر من الهرمان يتدلى حائرا ويلامس النهدين ..
وظل يلاحقها بنظراته وهى جالسة فى تأمل من يطلب منها الرحمة ..
وكان أول ما بدا منها فى ضوء المصباح يداها الطويلتان .. كانت اليدان طويلتا الأصابع وفى باطنها خشونة من تعمل فى الحقل ولكن الوجه كان صافيا ناعم الملمس ودقيق الملامح جذابا ..
ولاحظ أنها بدأت ترنو إليه فى حذر كأنها لم تصدق ما قاله لها .. وتسأل عن سبب بقائه بعد أن تعشى واسترد عافيته وعرف أن زوجها غائب ..
وساورها احساس الريفية التى أدخلت رجلا غريبا فى بيتها رجلا لم تره من قبل ولا تعرفه قط أدخلته وردت عليه الباب .. فماذا يقول أهل القرية .. لو شاهدوه فى بيتها .. انتصبت واقفة وصعدت السلم إلى الغرفة العلوية ومن هناك تطلعت إلى الطريق وظلت تتطلع .. كان النخيل يبدو مخيما على القرية والزراعات الواسعة تبدو فى جهامة مطبقة ..
وأخذت ريح باردة تصافح خديها .. وهى تتطلع إلى بيوت القرية .. كان بيتها فى ناحية من القرية قريبا من وابور الطحين فلما تعطل الوابور .. وباعه صاحبه ظلت البناية قائمة وظل محفوظ فى بيته يزرع الأرض القريبة منه ويحرس زراعات القطن فى موسم القطن ..
والذى يطل من طاقة القاعة العلوية لبيت محفوظ يكشف القرية وبيوتها ويكشف الطريق .. ولا أحد يكشفه .. فلما طلعت نفيسة وقد دارت فى المكان دورتها العادية .. نزلت وعيناها تقول للرجل الغريب .. أرجو أن ترحل ولكنه لم يرحل ولا يبدو عليه ذلك .. فسألته :
ـ ألا زلت تحس بالتعب ..؟
ـ إنها بداية أو نهاية الحمى .. لست أدرى .. وعلى أى حال سأرحل بعد ساعة ..
ونظرت إليه .. ورأته مريضا .. ويبدو لطيفا فعادت تشفق عليه وبلغ بها التأثر مداه ..
وكانت تود أن تقول له :
ـ يمكنك أن تبقى إلى الصباح ..
ولكن لم تستطع النطق بهذه الكلمات .. فقدت القدرة على الكلام .. كانت أسارير وجهها جامدة .. وفى خلال ثوان أحست احساسا عنيفا بالقلق وتحركت فى صحن الدار .. ثم راقبها وهى تمضى إلى الباب متصلبة الملامح واستوثقت من أنها تربسته ودارت حول مربط البقرة .. ثم عادت إلى مجلسها من أول درج فى السلم الموصل إلى القاعة العلوية ..
وأحست بالبرد .. ولكنها ظلت فى مكانها ..
وتعطل عقل الرجل عن العمل كلية بعد أن وجد هذا الملجأ .. فلم يفكر فى غيره ولم يعد العدة لعودة الزوج المسافر فى أية لحظة .. واستقر رأيه على أن يبقى إلى الصباح مدعيا المرض .. ولن يخرج مهما كانت الأحوال ..
كان متعبا مكدودا وفى يديه وساقيه طبقات من الوسخ من جراء سيره الطويل فى الحقول الموحلة وكان يود أن يغسل وجهه ويديه ورجليه ..
وخجل من أن يطلب منها الماء .. وفى غمرة من عذاب النفس قال بصوت المتردد :
ـ هل يمكن أن أتوضأ لأصلى العشاء ..؟
ـ هناك جامع قريب .. إذا شئت أن ...
لقد بدت مليحة ريانة الحسن رقيقة .. قبل أن يدخل عتبة بيتها .. أما بعد أن أسمعته هذا الكلام فقد ود لو استدار ويصفعها .. ويخرج غاضبا منطلقا فى الحقول الساكتة ..
وجلس فى صمت الأخرس دون أن يعقب على كلامها ..
رآها تجتاز الفناء إلى الكانون .. وتضع عليه القدر .. وتنفخ فى النار .. وانفتأ غضبه وشعر ببعض السعادة لأنها أوقدت من أجله النار ..
ولما سخن الماء .. أنزلته وقدمت له الطشت والكوز فانتحى جانبا وشمر عن ساعديه وغسل وجهه ويديه ورجليه ومسح عنقه بالماء الدافىء واحس بالانتعاش .. وكان التغيير الذى طرأ على حسه قد ألهب وجدانه .. فنسى أنه طريد ومسجون .. ولم يفارق وجهه الابتهاج حتى وهى تلقى إليه دون ما اكتراث بالحرام والزكيبة .. لينام .. واقتضاها ذلك أن تكون قريبة منه أكثر من كل مرة .. حتى حف ثوبها بجسمه ..
ونظر إليها بعد أن جثم على الزكيبة متغطيا بالحرام وضاما جسمه فيه .. محنيا ظهره .. وقد زايله الخوف من العالم الخارجى كله .. وتركز خوفه فى وجود ما معه ..
كان شعرها أسود غزيرا وشفتاها مكتنزتين منفرجتين عن أسنان فى بريق اللؤلؤ .. وكانت عيناها السمراوان تتبعانه .. ومنهما تعابير الفهم القوى بكل خلجات نفسه .. لقد داخلها إحساس بعد أن انتصف الليل وهدأت الرجل ونامت الكائنات بأن الرجل الغريب دخل بيتها ليقتلها ويسرق البقرة وهو يدعى أنه تاجر .. ويتوضأ ليصلى وتأمن جانبه .. وحتى بعد أن قدمت له الفراش ورضيت بأن يبقى إلى الصباح .. كانت تود أن تطرده من البيت أو أن تخرج وتذهب إلى بيت عمها عبد الجليل وتحدثه بأمره .. فيأتى ويطرده ولكنها خشيت من الفضيحة ومن كلام الفلاحين حيث تلوك سيرتها الألسنة لمجرد وجود رجل غريب فى البيت وأغلقت عليه الباب فى غياب زوجها ..
وصعدت إلى القاعة العلوية وأنفاس الليل ساكنة .. وكانت نجوم الليل الشتوية حالكة والريح تصفر هناك بين أشجار النخيل ومع أن حسها كله كان منصرفا فى أول الأمر إلى البقرة والنعاج والطيور الراقدة فى المجاز .. ولكنها ما لبثت أن تحولت بكليتها نحو نفسها فردت القاعة وظلت متيقظة لتواجه الحدث الذى تجسم فى الليل والظلام كشىء فظيع بالغ الحد فى البشاعة .. وظلت ساهرة قلقة ..
  ومع أنفاس الصباح نامت وهى جالسة ..
*** 
ولما تيقظت .. هزت رأسها كأنها تستيقظ من كابوس ثقيل ومسحت عينيها وهبطت سريعا إلى حيث يرقد الرجل فألفته .. قد استيقظ ولكنه ظل مستلقيا فى مكانه ..
وبدا لها فى اشراق الصباح على غير ما رأته فى العتمة .. شابا وسيما وأصغر سنا من زوجها ويبدو كأبناء المدارس .. وقد نبت شعر لحيته خفيفا ولكنه زاد من وسامته ..
وحيته تحية الصباح وقد رقت لحالته لما رأت عوارض المرض تبدو جلية على وجهه الشاحب ..
وكان لابد أن تنصرف إلى عملها اليومى فتملأ البلاص وتكنس البيت .. ثم تخرج بالبقرة لتسقيها من الترعة وتعود لتعد طعام الافطار ..
ولما وجدت الرجل الغريب لا يستطيع التحرك .. أغلقت باب البيت بالمفتاح من الخارج وهى خارجة تحمل البلاص خشية أن يأتى أحد من القرية فيطرق الباب فى غيابها ويدخل ..
ولما رجعت .. تربست الباب وراءها أيضا .. دفعتها الغريزة على أن تخفيه عن العيون كانت تخشى الفضيحة .. ولم تكن تخاف زوجها مثل خوفها من أهل القرية ..
وكنست القاعة العلوية أولا وأبدت للرجل الغريب رغبتها فى أن يصعد إلى هناك وفهم قصدها من ذلك .. فهم أنها تود أم تبعده عن عيون الفلاحات اللواتى يأتين فى الصباح .. لأخذ البيض واللبن .. وحاول جاهدا أن ينهض وحده فلم يستطع ..
كان لابد أن تساعده .. استند بذراعها الأيسر .. حتى صعد إلى القاعة ..
وتمدد على الحرام الذى فرشته له وأغلقت وراءه الباب ورأى خيوط الشمس تدخل من الطاقة الصغيرة والرزاز يسبح فى الضوء الباهر ..
وسمع بعد قليل صوت نساء يتحدثن مع نفيسة .. فأصغى بسمعه وقد شله الخوف خشى أن يكون قد رأينه ويحادثنها عنه الآن ..
ثم ما لبث أن أدرك أنهن يثرثرن كعادتهن كلما اجتمعن فى مكان وانقطع الصوت .. وسمعها ترد الباب بعد أن خرجت النسوة .. وأحس بأقدامها وهى ترقى السلم إليه .. حاملة له صحنا من العصيدة .. ووضعت الصحن أمامه ثم خرجت مرة أخرى وأغلقت عليه باب القاعة ..
وأكل .. ثم دفع الصحن جانبا وكان فى القاعة صندوق صغير وحصيرة مطوية .. وبعض الملابس لها ولزوجها ..
وكانت الطاقة مرتفعة فنهض عباس واشرأب ببصره ليرى القرية التى دخلها دون أن يعرف اسمها فى ظلام الليل .. كانت القرية على مسافة ميل .. وقد خيم عليها النخيل وبدت منها بيوت بيضاء فى الناحية الغربية .. وشجر كثيف ملتف .. وكانت الغيطان كلها مزروعة قصبا وقمحا وبرسيما .. وخضراوات متنوعة ..
وشاهد الفلاحين فى الطريق إلى الغيطان بدوابهم ..
والخط الحديدى هناك ثم ترعة الابراهيمية وأدرك أنه كان يتخذها علامة على الطريق دون أن يشعر ..
ومر النهار كله ثقيلا وهو فى مكانه لا يبرحه وكانت نفيسة تحمل له الطعام وتبادله كلمات قليلة ..
وفى العتمة ومن طول مكوثة فى القاعة أدرك أن سمعه غدا أكثر تنبها .. وسمعها تحادث رجلا على الباب حديثا طويلا ..
وقد سمع صوتها عاليا لأول مرة فلما صعدت إليه وفتحت باب القاعة تبعها بنظراته ساكنا وقد أحس بشىء وسألها :
ـ هل عاد زوجك ..؟
ـ لا ..
ـ سمعت صوت رجل .. فحسبته هو ..
ـ ك ..؟
ـ لا ..
ـ سمعت صوت رجل .. فحسبته هو ..
ـ إنه شيخ الخفراء .. يتحدث عن سجين فر .. فى دير مواس ويحذرنى منه .. فقد شاهده الفلاحون بصفاته يعبر الجسر ..
وانتفض رعبا ..
ـ وهل ضبطوه ..؟
ـ أبدا .. البوليس طوق القرية وهناك من دلهم على شخص كان يتخطى القنوات وهو يجرى .. ولابد أنه هو ..
   وشحب لونه .. وشل الخوف كل حركة له .. وسرت فى أوصافه الرعدة فأطرق ..
وانبثق فى ذهن المرأة هاجس .. أرعبها ورأت وجهه المتصلب .. أنه ليس بتاجر ولا بعابر سبيل على الاطلاق .. فلم لايكون هو السجين الهارب ..
وفى العتمة المدلهمة ردت هذا الخاطر عن ذهنها .. ثم عادت إليه ..
ولما استوثقت من غلق الباب الخارجى فى هدأة الليل .. وأحست بالوحدة والسكون ازداد خوفها ..
وصعدت إلى الرجل الغريب وفى عزمها أن تطرده ولكنها وقفت على عتبة الباب مسمرة ولما نظرت إلى وجهه فى الظلام تيقنت أنه الشخص الهارب المطارد ..
وعرف من نظراتها وسكون لحظها أنها عرفته .. عرفت أنه السجين الهارب وأنها ستشى به وتخبر الناس عنه فتحرك سريعا وأمسك بيدها وجذبها نحوه ليمنعها من الخروج .. وتركت جسدها يرتمى على الحرام دون أن تخرج من فمها صرخة ..
*** 
كانت تتوقع أن يرجع زوجها إلى البيت فى كل لحظة ..
ومع ذلك كانت تقدم الطعام للرجل الغريب فى القاعة العلوية وتخفيه عن العيون ..
وفى الليل كانت تذهب مسلوبة الإرادة وتنام معه فى القاعة نفسها وتغلق عليهما الباب ..
وداخلها إحساس منذ الذى حدث البارحة بأن القدر مسها بيده الرهيبة لتعيش فى هذه الدوامة وهى أعجز من أن تتحدى القدر .. كانت عاجزة عن التحرر من الرق الذى سيطر عليها ..
***  
وذات ليلة وقد أغلقت باب الدار كعادتها سمعت طرقا .. ثم سمعت صوت زوجها وذعرت وحدثت الرجل الغريب .. فانتفض واقفا .. ورأت أن تخفيه فى " الحاصل " حتى يدخل الزوج وتترك الباب مفتوحا ليهرب ..
ونزلت وفتحت الباب ودخل زوجها ..
تركت باب الدار مواربا حتى يهرب الرجل الآخر ..
ومرت لحظات رهيبة من السكون نسيت فى خلالها الباب المفتوح .. ولما رجعت لتغلقه .. سمعت طلقة واحدة .. فشحب لونها .. وحكى وجوه الموتى .. واستندت برأسها على الحائط وأغلقت عينيها ..
وكان شيخ الخفراء قد بصر بالرجل الغريب يجرى فحسبه لصا وناداه فلم يرد .. فأطلق عليه النار .. واخترقت الرصاصة القلب ..
====================== 
نشرت القصة فى مجلة آخر ساعة بالعدد 1424 بتاريخ 7/2/1962 وأعيد نشرها فى كتاب " زوجة الصياد " سنة 1961
======================


   





وجه الشمس


كان توفيق يشتغل طوافا فى مكتب بريد الهاشمية ويمر على خمس قرى واقعة على الضفة الشرقية من النهر .. وكان يركب حماره ويقطع فى جولته هذه أكثر من خمسة عشر كيلو مترا فى اليوم فى طرق غير مستوية .. يعبر به القنوات .. ويصعد به التلال .. ويمر على الجسور المتربة .. ويسير وسط مزارع القصب .. وفى قلب البساتين .. ويمشى به فى وهج الهجير .. وتحت زمهرير الشتاء .. ولا يشتكى من شىء حتى وإن اشتكى الحمار ..
وكانت جزيرة الشيخ فضل هى آخر جولاته اليومية .. وهى جزيرة كبيرة .. أرضها رملية .. تركها النيل دون طمى وأخذ الأهالى على توالى السنين يصلحون ما استطاعوا من أرضها ويهيئونها للزراعة .. ولكن كانت قوتهم محدودة فى نطاق ضيق .. ثم جاءت الحكومة أخيرا وعملت المشروع لإصلاح آلاف الأفدنة مرة واحدة .. وجاء المهندس والعمال بالجرارات والآلات الرافعة ..
وبدت الحياة فى الجزيرة المهجورة .. وأخذ توفيق أفندى الذى كان غالبا ما يترك الرسالة والرسالتين لريس المعدية .. يعبر بحماره جانبا من النهر .. ويخرج إلى الأرض العذراء وفى يده حزمة من الرسائل حملها للعمال والفلاحين .. وكان يمر على المساطيح .. ويملأ جرابه من خيرات الأرض التى تهتز بالنبات الطيب ..
وكانت شمسيته هى الشىء المتحرك والثابت على الجسر .. ففى الساعة الحادية عشرة تماما يدخل قرية تماى .. وعند الظهر يكون فى الجزيرة ..
وكان توفيق يشتغل موزع بريد فى هذا الخط منذ خمسة وعشرين عاما فهو يعرف كل شبر فيه .. ويعرف كل العائلات والبيوت فى القرى التى يمر عليها .. البيوت التى تكبر والبيوت التى تندثر .. والذين يبيعون الفدادين جريا وراء شهواتهم ونزواتهم والذين يشترون مثلها بالعرق والكفاح .. والأبناء الذين يتلقون العلم فى المدارس وفى الجامعات .. وحتى الذين يدرسون فى الخارج كان يعرف أسماءهم ويحمل الرسائل إليهم ومنهم .. ويحمل شهاداتهم جميعا وخبر نجاحهم فى الامتحانات ورسوبهم .. وكان يخفى خبر الرسوب .. ويؤجله حينا حتى تمر المسألة بسلام ..!
وكان كل أهل المنطقة يعرفون توفيق أفندى معرفتهم للشمس .. وكان حماره على الجسر .. إيذانا بخبر جديد .. أو فرحة من غائب ..
وكان يقرأ للفلاحين الخطابات .. ويفك طلاسم خطوطهم الرديئة الملتوية .. لأنه اعتاد عليها وعلى مثلها .. ويقرأ الف سلام فى الخطاب الواحد على الحاج عبد الصبور .. والحاج جابر .. والشيخ رسلان .. وأبو محمد .. والست توحيدة والست منيرة .. وأم الخير ..
وكان وهو يحمل الفرحة والترحة لأهل القرى الصغيرة التى يمر بها فى جولته ويلبى للناس كل طلباتهم .. يشعر بسعادة دافقة ..
كان هو البنك الجوال .. يأخذ من الفلاحين البسطاء الذين لا يعرفون القراءة .. ولا يميزون بين إذن البريد والورقة البيضاء .. الأذون والحوالات .. ويصرفها لهم . ويقوم بكل الأعمال حتى الخارجة عن نطاق عمله .. ولا يرفض لأحد مطلبا ..
وعندما يتم نهاية مطافه ويجلس فى مخيم المهندس مختار يحس بالسعادة .. كمن فرغ من عمل كبير .. كان يحمل له جريدة الأخبار .. وما يظهر من المجلات المصورة .. ليتسلى بها فى وحدته ..  وكان مختار هو الشخص الوحيد الذى يشغل نفسه بالقراءة منذ جاء إلى هذه المنطقة وانقطع للعمل ..
وكان مختار يقيم آلة رافعة تخرج الماء من جوف الأرض لتحول الأرض الجرداء إلى أرض خصبة تنبت الزرع البهيج ..
وكان يؤمن بأن كل شىء فى هذه الصحراء يمكن أن يتحول إلى خضرة متى تفرغ الإنسان للعمل وبذل الجهد فى سبيله ..
وكان مختار نحيلا طويل العود فى الأربعين من عمره .. نشيطا لا يكف عن الحركة ..
وكان قد وجد لنفسه منزلا جميلا فى تلك الصحراء .. منزلا أقامه أحد الأعيان فى طرف عزبته .. عندما شرع يصلح الأرض البور وكان ينوى أن يقيم فيه إقامة دائمة .. ولكن زوجته لم ترض بالعيش فى تلك البقعة المقفرة .. وتركته بعد عشرة أيام وعادت إلى القاهرة .. فترك الرجل البيت مهجورا لامرأة الخفير ..
وعندما شاهده مختار قريبا من مكان عمله طار من الفرحة وتحدث مع توفيق أفندى فتوسط هذا عند صاحبه واستأذنه .. ليقيم فيه مختار فأذن له عن أطيب خاطر ..
وكان من عادة مختار منذ بدأ العمل وانقطع له أن يسافر إلى القاهرة مرة واحدة فى الشهر ويمكث هناك يومين أو ثلاثة مع زوجته ثم يعود إلى عمله ..
ومع أنه وجد هذا البيت الجميل فى العزبة لائقا بإقامته ولكنه لم يكن يحب أن يصحب زوجته إلى هذا المكان لأنها عروس ولأنه كان لا يحب أن يصدمها فى أول حياتها الزوجية بالحياة فى هذه المنطقة النائية الخالية من كل وسائل التسلية .. فكان يسلى وحدته بالقراءة ويطلب من توفيق أفندى أن يأتى له بكل الكتب والمجلات التى تظهر فى المدينة ..
وكان العمل قد شغله فى الواقع واستغرق كل كيانه ووجدانه ..
وكان يشعر بسعادة لأنه يقوم بعمل نافع للجميع كان يزيد من رقعة الأرض المزروعة .. ومعناه أن يزيد من رقعة العمران .. ويزيد من المحصول .. ويزيد من النور الذى يدخل فى قلوب الفلاحين .. ويوجد مدرسة .. ويوجد مستشفى .. ويوجد الحياة فى منطقة ميتة ..
وتركه توفيق أفندى ومضى لسبيله .. وحمل مختار ما معه ودخل إلى بيته وبعد العصر انغمس فى عمله إلى ساعة الغروب وتحرك حسه كله ساعة الغروب .. والليل قد أخذ يبرد ..
وكان العمال قد نفضوا ملابسهم مما علق بها من التراب .. واغتسلوا من ماء البئر الذى حفروه بأيديهم .. ثم جلسوا يشعلون النار للشاى ويصطلون بها ..
وكان عمال الحفر والذين يدقون المواسير من الغرباء .. ومنذ جاءوا إلى هذه المنطقة وحملوا الفئوس وحفروا فى الأرض لم يبرحوها أبدا ..
وكان شاب منهم ويدعى تفيان .. قد أصيب من ضربة ماسورة وجرح .. فانقطع عن العمل حتى يبرأ ويشفى من اصابته .. وكان بعد أن يتعشى ينتحى جانبا ويلوذ بالصمت شاخصا بعينيه إلى النار التى أوقدها العمال والفلاحون ..
ولقد كان يبدو ملتاعا رجلا لا يستطيع أن يفهم الجو المقبض الذى يحيط به فى هذه البرودة والعتمة ..
وكانت الشمس قد أوت إلى خدرها ..
وكانت ليالى الشتاء باردة وطويلة .. والعمال يقطعونها بشرب الشاى .. والتحدث فى مختلف الشئون ..
وكانوا يطوون مناديلهم وصررهم .. على ما بقى فيها من الطعام والشاى والسكر .. ولفائف التبغ .. ويضعونها تحت رءوسهم وينامون فى العراء ..
وكانت النجوم تبدو متألقة فى الليل كحبات الدر .. وكان مختار يرقب من الساحة التى أمام البيت الأبقار تنطلق عبر الحقول .. وقطعان الغنم .. وحولها الكلاب والصبيان بالعصى الطويلة ..
وبعد أن تنطلق الحيوانات إلى حظائرها .. يشتد الظلام ويخيم السكون ولم تعد تسمع إلا نباح الكلاب ..
وكان من نافذة بيته يرقب الهدوء المحيط من كل جانب ويرقب المزارع والأشباح التى تتحرك فى الليل ..
وكان العمال الغرباء ينامون فى مكان اختاروه لأنفسهم .. ومنهم من كان يصحو فى قالب الليل ويشعل لفافة من التبغ .. وكان تفيان يصحو فى معظم الليالى .. كان يبدو قلقا دائما .. نافرا .. يشعر بشىء يرفضه ..
 وكان قد تشاجر مع رئيس العمال فى العشى .. ولكن المهندس مختار أبقاه .. فبقى معهم ولكنه جلس مستاء .. كانت الغربة تقبض على قلبه .. وكان يخشى أن يموت وهو فى هذه الغربة ويدفن فى أرض بعيدة عن أهله .. حيث البرودة الشديدة .. كان يكوم أكواما من الدريس وينفخ فى النار .. وكان يشخص إلى قلب اللهب .. ويظل ساهرا ..
إن كل شىء فى الليل يتخذ شكلا جديدا تحت أنوار الفجر ..
كان يرى المراكب بأشرعتها البيضاء تخفق فى قلب العتمة .. وذبذبات حمراء تومض فى جوف الليل ..
إن التلال الرملية .. والطين والماء العكر .. وشعلات من النار تومض هنا وهناك .. إن هذه الأشياء يعيش فيها دوما ويحسها ويألفها ولكن الآن لسبب لايدركه تمزق قلبه وأصبح يبغضها ..
وكان المهندس مختار يلاحظ قلق تفيان ومرضه .. فيكلفه بعمل بسيط .. يشغله دائما .. وأبعده عن الأعمال الثقيلة . كان يكلفه أن يأتى للعمال بالسجائر والشاى والسكر من دكاكين الفلاحين .. وسأله ذات مرة عندما رآه يكثر من شرب الشاى الأسود والتمباك .. ويسعل بشدة :
ـ لماذا لا تحافظ على صحتك .. وتكف عن التدخين .. وشرب الجوزة ..؟
ـ ليس التدخين هو السبب ياباشمهندس .. هل تتصور أننى أضعت صحتى وأتلفتها .. لقد ولدت هكذا مريضا .. ولقد منعنى المرض حتى من دخول كتاب القرية . كان والدى مريضا .. ولقد عشت طفولتى كلها وأنا أراه جائعا مقرورا ..
كان دائما بردان .. جوعان .. يستقبل الشمس .. ولكن الشمس لم تغنه عن جوعه أبدا .. وأحسبه عاش حياته كلها لم يذق فيها لحم الضأن ولم ير وجه الرغيف الأبيض ..
ـ ولكن أنت غيره .. لقد ذقت اللحم وأكلت الرغيف الأبيض وإذا كنت تريد أن تعيش حقا كما يعيش الناس فتحرك .. ولا داعى لأن تشتكى دائما دون أن تعمل شيئا .. وتبذل أى جهد والحياة كفاح ..
ـ وماذا يفيدنى العمل ..؟ حتى لو اشتغلت عشرين سنة أحمل " العلاقية " على كتفى .. أى مال يتوافر لى من مثل هذا العمل ..؟ لا شىء .. أننى أود أن أحفر فى الرمال فأجد " لقية " .. زلعة مملوءة بجنيهات الذهب .. عندئذ يأتى الفرج ولا تسمع منى الشكوى بعد ذلك أبدا وسآخذها وأطير .. ياباشمهندس ..
وضحك مختار .. وقال له :
ـ إذن .. احفر .. واحفر .. ولكن احفر هنا .. اعمل ما فيه ..
ـ سأحفر .. وأنا أحس بأن فى هذه الأرض كنزا ..
ـ إن فيها كنزا حقا .. ولكنك لا تعرف مكانه .. فيها كنز حقيقى وعندما ترى وجه الشمس كل صباح كما يراه توفيق أفندى ستعرف مكان هذا الكنز ..
ـ وإذا لم أر وجه الشمس التى تتحدث عنها ..؟
ـ ستعيش ضائعا كما أنت ..
ونظر إليه تفيان ساهما .. دون أن يفتح فمه ..
   وتركه المهندس ومضى لعمله ..
 كانت الحياة بالنسبة للجميع شاقة ولكنها بهيجة ومنطلقة .. وكانوا يتعاونون على المشقة بالغناء والمرح ..
ولما حدثت الإصابة لتفيان آلمتهم .. وتركوه يستريح دون عمل ويأخذ أجره ولكن لما وجدوه ناشزا .. ونافرا .. ويحمل فى صدره الحقد الذى ليس فى صدورهم .. تركوه لشأنه وكرهوه وكانوا يتمنون لو يطرده " ريس العمال " .. وقد أصبح وجوده وهم فى الغربة يضايقهم ..
*** 
وكان المهندس مختار يتنقل بينهم ويلف كالنحلة .. وهو بادى السرور والايناس وكان يضاحكهم .. ويتبادل النكات معهم ويحثهم على العمل والفراغ منه ليعودوا إلى أهلهم ..
وكان يظل واقفا فى الشمس حتى يقترب الظهر .. وعندما يرفع رأسه وينظر فى اتجاه النيل .. يرى من بعيد موزع البريد بشمسيته وحماره مقتربا من محل العمل .. كان هو الشىء الثابت المتحرك على الجسر .. وبين المزارع .. وكان تأخيره يتطلب ألف سؤال وسؤال .. كان بالنسبة لهم قطار السكة الحديد .. الذى يأتى فى ميقات معلوم ويتحرك فى ميقات معلوم .. وكانوا يسألونه عن الأخبار والأحوال وعن كل ما يعن لهم من شئون .. وكان الرجل الذى اقترب من الستين من عمره لا يكل ولا يمل من شىء أبدا ..
وعندما قالوا له مازحين :
ـ أن المصلحة .. ستغير الحمار بموتوسيكل ..
قال لهم فى بساطة وهو يبتسم :
ـ إنى أركب الموتوسيكل .. أركب الطائرة الهليوكوبتر أيضا ..لو أرادوا أن يوزعوا البريد بها .. إننا نعيش للمستقبل ..
وضحكوا جميعا .. أخذتهم الفرحة من لهجته وانطلاقه .. وكان يحمل رسالة لمختار من زوجته ردا على رسالة منه لها تخبره بأنها نزلت عند رغبته وستحضر لتقضى معه أياما .. مادام البيت جميلا .. وترجو أن يحدد لها السفر وسر مختار .. وشرع يرد عليها فى الحال ويحدد لها القطار الذى ستركبه .. والساعة التى سينتظرها فيها على المحطة وطوى الرسالة وغلفها وسلمها لتوفيق أفندى وهو مسرور القلب ..
وقدمت سميرة فى قطار العصر فى يوم من أيام الأربعاء الدافئة وركب معها زوجها السيارة من المحطة .. إلى المعدية .. وسرت فى الطريق مما حولها من مزارع وخضرة .. وكانت ترى الريف لأول مرة وعندما ركبت المعدية وانطلقت بها فى عرض الماء .. وكانت الشمس قد أوت إلى خدرها وغسق قانى الحمرة يلتهب فى الأفق .. وكان هناك خط أرجوانى مستدير كأنه يرسم الاكليل للشمس ويشيعها فى مقرها قبل أن تغيب .. وكان خد سميرة من الفرحة بالمنظر الرائع يرف كالأرجوان ويلتهب مثل خد الشمس ..
وعندما رست المركب .. على بعد أمتار من اليابسة ومن الأرض الرملية ومدوا لها السقالة .. وغاص ربع السقالة فى الماء .. نظرت سميرة إلى زوجها وإلى الرجال متحيرة .. لم تكن تدرى كيف المخرج ..
وأمسك بيدها ملاح خاض الماء .. فمشت وجلة على السقالة ثم حملها ملاح آخر بذراعيه القويتين حتى بلغ بها الأرض فى أمان ..
ونزلت وهى تنفض ثوبها .. ولم يكن قد علق به أى شىء على الاطلاق .. ولكنها أحست بحاجتها إلى هذه الحركة لتخفى انفعالها .. فلأول مرة يحملها رجل غريب وتستسلم له دون مقاومة ودون أن تستطيع أن تقول نعم أو لا .. لأن أحدا فى الواقع لم يسألها أى سؤال ولم يكن هناك مجال للسؤال فى الواقع .. فإن العادة المألوفة أن يفعلوا هذا مع النساء اللواتى لا يشمرن عن سيقانهن ويخضن فى الماء ..
وكانت سميرة .. تتمنى لو فعلت مثلهن .. خلعت حذاءها وجوربها وشمرت عن ساقيها .. وخاضت فى الماء .. كانت تحس عندئذ برعشة غير التى تشعر بها الساعة ..
وفى الليل احتضنها زوجها وهى تنظر إلى النجوم المتألقة فوقها وكانت لاترى هذه النجوم ولا تحس بها فى القاهرة أبدا .. وشعرت بلذة وبخدر لذيذ يسرى فى الياف لحمها .. وبشىء لم تحس بمثله فى القاهرة قط .. ولم تكن تدرى أذلك من فعل الطبيعة الساكنة أم لأنها مشتاقة إلى زوجها ..
وفى الصباح أخرجت القمصان الجديدة والأشياء التى حملتها معها من القاهرة وأخذت تحدثه عن أهلها وعن بيتهم هناك .. وأنها تركت الخادمة .. عند خالتها نجية .. وأنها حملت معها كل نقودها وحليها خشية السرقة ..
وأخرجت النقود والحلى من حقيبة يدها .. ليضعها فى مكان أمين ..
ورأى من بين النقود ورقة .. بخمسين جنيها ..
فقال لها فى استغراب :
ـ لماذا لم تغيرى هذه ألم تقرئى الصحف .. وتسمعى الراديو ..؟
ـ قرأت وسمعت .. ولكن حملتها إليك لتغيرها بنفسك ..
ـ أتحملينها من القاهرة .. إلى هذا المكان المقفر .. لأغيرها أنا .. عقلية النساء عجيبة حقا ..
ـ وهل كنت تريدنى أن أقف فى الطابور أمام شباك البنك ساعات وساعات .. ليس عندى أعصاب لهذا ..
ـ وكيف أغيرها الآن وأنا لاأستطيع أن أترك هذا المكان فى ساعات الصباح ساعة واحدة ..
ـ أرسلها مع أى شخص تعرفه .. إلى بنك مصر فى المنيا .. أو فى ملوى .. أو فى أسيوط .. ولا تنظر إلىَّ هكذا .. من أول ليلة .. وإلا سأرجع حالا ..
وابتسم مختار .. وطوى الورقة فى جيبه وهو يفكر فى حل للمسألة .. ثم رأى أن يذهب بنفسه إلى البنك فى صباح السبت ..
وترك زوجته مع امرأة الخفير ومن جاء يسلم عليها ويرحب بها من الفلاحات .. وخرج إلى عمله .. وشغل به .. حتى رأى توفيق أفندى قادما .. من بعيد .. يحمل إليه الجريدة والبريد ..
ونشر مختار جريدة الأخبار .. وقرأ فى الصفحة الأولى خبرا .. جعل قلبه ينتفض بشدة فقد قصرت المدة التى سمح فيها للجمهور بتغيير ما عنده من هذه الأوراق وأصبح آخر ميعاد هو الخميس ..
واحتار ماذا يفعل .. ووراءه مشاغل العمل .. وكان توفيق أفندى قد تركه وذهب يوزع ما يحمله من رسائل على الفلاحين .. فأرسل وراءه تفيان وجلس مختار ينتظره ..
ولما جاء توفيق أفندى بصحبة تفيان تحدث إليه المهندس مختار بأمر الورقة المالية .. وطلب منه أن يغيرها .. من البنك .. أو يسلمها لأى شخص يثق به ليقوم نيابة عنه بهذا العمل ..
ووضع توفيق أفندى الورقة ذات الخمسين جنيها فى محفظته ..
ونظر العمال إلى المسألة فى عجب .. إذ لم يكن فى حسبانهم قط أن المهندس الذى يلبس البنطلون والقميص القطنى والمتقشف فى حياته وأكله يعيش بينهم وهو يملك مثل هذه الثروة ..
ورجع توفيق إلى بطن الجزيرة يوزع ما يحمله من بريد ..
وذهب تفيان .. إلى دكان الأرملة التى اعتاد أن يشترى منها التمباك والسجائر لنفسه وللعمال .. وكانت المرأة فى طريق المعدية ..
وحدث الأرملة بانفعال لما رآها وحدها بأنه سيصبح غنيا .. فى يوم وليلة ويشترى الدكان أو يشتريها هى ..
وضحكت المرأة وسألته :
ـ وكيف تشترينى ..؟
ـ سأتزوجك ..
وسرت المرأة من الحديث .. وسألته :
ـ ومن أين لك بالمهر .. وأنت تصرف فلوسك كلهاعلى الدخان ..؟
ـ سأدفع لك مهرا .. كبيرا كبيرا .. لم يدفع من قبل لفلاحة ..
ـ ومن أين تأتى به وأنت فى الغربة ..؟
ـ سآخذ المهر من جيب الشيخ عبد الفتاح شيخ عزبتكم .. رأيته الساعة يضع ورقة كبيرة فى جيبه ..
ـ ورقة كبيرة ..؟
ـ نعم ورقة بخمسين جنيه ..
ـ ورقة بخمسين جنيها ..؟
ـ أجل .. وهو الآن فى طريق المعدية .. وسأترصد له وأسرقها منه ..
ـ أنك تمزح .. إن الشيخ عبد الفتاح .. لو فتشته فى أى وقت لا تعثر فى جيبه على جنيه .. واحد .. إنك تمزح ..
ـ إنك تتصورينى أمزح .. ولكنى جاد .. وسآتى لك بالورقة هذا المساء .. وسترينها فى يدى .. كبيرة .. وعليها كل الرسومات الجميلة .. وسنركب مركبا .. ونتجه إلى القاهرة .. فى الليلة نفسها .. سنرحل معا ..
وابتسمت المرأة ولم تعقب بشىء .. وتركها وذهب ..
ولما رجع مختار إلى البيت ليتغدى مع زوجته .. حدثها بأنه أعطى الورقة للطواف .. ووجد زوجته مسرورة من زيارة الفلاحات لها .. ومأخوذة بالمناظر الجميلة التى حولها .. وقالت له باسمة :
ـ لقد تأخرت عن الغداء .. هل أصبح من عادتك أن تتغدى فى الساعة الثالثة ..؟
ـ إن العمل يجبرنى على هذا .. وأن أخرج مع العمال من دائرة العمل فى الساعة التى يحسون فيها بالجوع ..
ـ إن العمل فى الواقع يسيطر على كل مشاعرك .. ولقد راقبتك من النافذة طويلا .. لم أكن أعرف أنك تحب الألات إلى هذه الدرجة ..
ـ إن الهبة فى الواقع تخلق مع الإنسان .. وتظهر وهو فى المهد ولقد كنت فى طفولتى مهندسا .. أصنع العدد من الفخار .. ولقد صنعت مرة وابورا من الطين والصفيح ودارت طارته حتى أذهلت الحاضرين ..
وأن الفرح يملؤنى ويشل كل إحساساتى الأخرى .. عندما أرى بعينى هذا الوابور يدور والمياه تتدفق كالسيل على الترع والقنوات ..
ـ وبعد أن يدور .. لمن ستتركه ..؟
ـ لميكانيكى يعرف كل دقائقه وأنت قد تذهلين .. إذا عرفت أن معظم الوابورات فى هذه المنطقة يديرها اسطوات لم يدخلوا مدرسة الصناعات ولم يرو حتى بابها ..
ـ وكيف يديرونها إذن ..؟
ـ أنهم أذكياء .. فيهم ذكاء مفرط .. ويكفى أن يرى الواحد منهم الميكانيكى يدير أمامه الآلة مرة أو مرتين ليفهم كل شىء .. كل سواقين السيارات والوابورات هنا من صميم الفلاحين ..
ـ هذا عجيب ..
ـ وأعجب منه وأنت ترين العمال .. وهم يدقون المواسير ويركبون العدد الدقيقة فى براعة عديمة النظير ..
وأشعل مختار لنفسه سيجارة وصمت ونظر من النافذة ورأى توفيق أفندى راجعا بحماره بعد أن فرغ من عمله .. فى الطريق إلى المعدية .. وقال لها وهو يشير بيده :
ـ هذا هو الرجل الذى أعطيته الورقة ..
ـ وأين هو ذاهب الآن ..؟
ـ أنه سيركب المعدية .. التى نقلتك إلى هنا ..
ـ إنه يبدو نشيطا موفور الصحة .. برغم شيخوخته ..
ـ أنه موفور الصحة .. لأنه متحرك .. وفى الحركة الحياة .. إن هذا الرجل كما عرفت من الفلاحين هنا .. لم يمرض فى حياته ولم ينقطع عن العمل طوال هذه السنين التى قضاها فى خدمة المصلحة ..
وعندما مات ولد له .. ولد رباه حتى أدخله الجامعة .. كان الفلاحون يتصورون أنها الصاعقة التى ستصعقه وتشل حركته .. ولكنه طوى حزنه وتحرك بحماره وانتصر على الحزن .. وانتصر بحركته على الحياة نفسها ..
إن الجمود هو العدم وهو الشر المطلق .. ولقد جمد الفلاحون فى هذه المنطقة أمام الطبيعة فماتوا .. عاشوا فى جدب وفقر مدقع ونحن الآن نحركهم ونبعث فيهم الحياة ..
ـ وهل ستتحول كل هذه الصحراء إلى خضرة ..؟
ـ بالطبع فى مدى ثلاث سنوات أو أربع .. سترينها جنة ..
ـ ومن يسكنها ..؟
ـ هؤلاء الذين يعضهم الفقر بنابه .. ولكنهم سيتغيرون ويعيشون ويأكلون البيض والدجاج والأوز .. بدلا من بيعه إلى سكان المدينة ..
ـ وهل فيهم طبيعة الكفاح التى تتصورها ..؟
ـ أجل .. وهناك فى النخيل الذى ترينه أمامك وفى الطريق إلى المعدية أرملة جميلة مات عنها زوجها منذ سبع سنوات وهى تربى ثلاثة من الصغار .. وأدخلتهم .. جميعا المدارس ..
ـ ما الذى تعمله ..؟
ـ فى النهار تزرع .. كما ترينها .. وفى الليل تبيع السجائر .. للفلاحين والعمال ..
ـ ولكن الحياة قاسية هنا .. الظلام .. والطين فى كل مكان والماء العكر .. ولا شىء غير هذا ..
ـ إن هذا كله سيتغير .. متى تغير الإنسان .. أو شاء أن يتغير ..
وكانت سميرة تنظر إلى زوجها فى وله العروس وفى خلال ساعات قليلة أحست به على حقيقته تكشف لها كرجل يشغل العمل والمستقبل كل حسه ..
كان مشرق الأمل ..
وكانت هى تشعر بالمرارة لشىء ينقصها .. تريد أن تستكمله فيه وقد استردته هنا .. ولكنه فى القاهرة يصبح إنسانا آخر .. إنسانا غائبا عنها إنسانا لا يرضيها على التحقيق .. ولكنه هنا معها .. واحتارت فى معرفة السبب .. وظلا ينظران من النافذة حتى غاب توفيق أفندى عن نظرهم فى المزارع .. وكانت الطيور تحلق فى الجو وهبات من ريح العصارى تداعب الزرع وتحرك سنابله ..
وفى المغرب تفقد العمال تفيان فلم يجدوه وعلموا أنه أخذ صرته وذهب فى طريق المعدية ..
ثم جاء من أخبرهم أنه حاول أن يعدى فى المعدية التى ركبها نفسها توفيق أفندى ولكنه لم يستطع أن يلحق بها كانت قد أبعدت عن البر .. ورفض " ريس " المركب أن يرجع له ..
ووجد تفيان زورق صياد قريبا من الشاطىء .. فركبه ليصل به إلى المعدية وحسبوه ذهب إلى القرية ليشترى بعض الحاجات .. ولما لم يعد فى صباح اليوم التالى حدثوا المهندس عن غيابه .. فقال لهم أنه ربما قضى الصباح فى القرية وسيأتى فى العصر ..
ومضى صباح الجمعة والنهار كله دون أن يعود .. وقبل غروب الشمس خرج مختار يتنزه مع زوجته .. ويريها أطراف الجزيرة ..
وعندما مروا أمام الفلاحة التى تبيع الدخان .. وقف أمام بابها مختار واشترى علبة سجائر ..
وسألها :
ـ هل مر تفيان من هنا ..؟
ـ أجل واشترى سيجارتين .. وذهب .. فى طريق النيل ..
ـ ولم يشتر شايا ولا سكرا ..؟
ـ لا .. لم يشتر هذا ..
واحمر وجه المرأة .. وهى تنظر إلى السيدة وغطت وجهها بطرحتها ..
وأخذ غياب تفيان المفاجىء يشغل المهندس خصوصا وأنه اختفى فى اليوم الذى رأى فيه توفيق أفندى وهو يضع الورقة الكبيرة فى جيبه .. ربما حدثه الشيطان أن يتبع الرجل ليسرقه .. ويفعل شيئا آخر .. وندم مختار لأنه كان السبب فى أن يعرض الرجل المسكين للسرقة وربما للهلاك .. ومضى يوم الجمعة كله فى قلق ..
وفى صباح السبت .. مضى النهار إلى الظهر كئيبا ومقبضا ..
ولما مالت الشمس عن السمت ظهر توفيق أفندى بحماره قادما من بعيد وطار مختار من الفرحة وجرى إليه يستقبله ..
***
وفى أخريات الليل كان أحد الفلاحين يتوضأ على شاطىء النيل فبصر بجثة يدفعها التيار إلى ناحيته .. وجذبها الفلاح إلى الشاطىء وغطاها بالحشائش وجرى يخبر الفلاحين بالغريق ..
وأنكره أهل الجزيرة .. ولكن امرأة كانت واقفة خلف الجموع تمسح عبراتها عرفتهم بشخصه .. إنه تفيان من عمال الوابور وكان يشترى منها السجائر ..
ولم تحدثهم المرأة عن غرام الشاب والمهر الذى كان سيدفعه لها وعن الرجل الذى كان يطارده ليسرق منه الورقة الكبيرة .. فقد طوى النهر العميق السر كله ..
======================== 
نشرت القصة فى ص . أخبار اليوم بالعدد 860 بتاريخ 29/4/1961 وأعيد نشرها فى كتاب " زوجة الصياد " سنة 1961
=======================



الأرقام الناطقة


     كانت سرعته الثابتة ثمانين ميلا فى الساعة .. وهى سرعة كافية لوصوله إلى الإسكندرية قبل منتصف الليل ..
     وكان الطريق الصحراوى فى هذه الساعة من الليل خاليا فى الواقع إلا من قليل من السيارات الذاهبة والراجعة التى كانت تبدو بأنوار مصابيحها من حين إلى حين ..
     وشعر حسن بنعومة الطريق تحت العجلات ، وأخذت السيارة تخب خببا .. وكان يسمع لها صوتا رتيبا منغما أشبه بهدير البحر ..
     وكان ذهنه صافيا برغم تعبه خلال النهار واحساسه بالحاجة إلى النوم وزاده هواء الليل الرخى صفاء وبهجة ..
     وكان قد اجتاز المنعرجات التى قبل الكيلو " عشرة " ثم استوى فى الطريق السوى .. وهو يمضى بأقصى سرعته ..
     ولم يكن من طبيعته أن يسرع بسيارته كلما سافر من قبل .. ولكنه وجد نفسه لأول مرة وليس فى الطريق سواه .. فانطلق ..
     وكان الشباب والحيوية الدافقة والفرحة بما هو ذاهب إليه هناك قد جعلته يسافر فى الليل ولا يستطيع الانتظار إلى الصباح ..
     وعندما أوغل فى جوف الصحراء بسجى الليل كانت برأسه الأحلام الذهبية وتصور نفسه وقد تدرج فى مراكز الشركة حتى يصبح مديرها وصاحب الأمر والنهى فيها .. وعندئذ سيتزوج أجمل فتاة .. ويجعل له بيتين واحدا فى القاهرة والآخر فى الإسكندرية .. ليكون فى الحالتين قريبا من عمله ..
     وكان الضوء المنبعث من المصابيح الأمامية .. يبين الطريق ويرتمى فى طول الصحراء كأنه لسان طويل من اللهب ..
     وحينما ترك مقود السيارة لحظات وأشعل لنفسه سيجارة .. كان يحس كأن العراء والليل ملك له وحده ورفع النافذة الزجاجية الصغيرة الملاصقة له ليشعل السيجارة فمنع الهواء من التسرب إلى الداخل .. ونفث الدخان ..
     وفى صمت الليل .. كان يقود السيارة بعقل الرجل الواعى .. كان يقودها بأمانة ..
     وكانت وحدته تدفعه إلى اليقظة وأن يحمى نفسه من النوم فى هذا الطريق الناعس ..
     وبمجهود جبار ظل متيقظا وكان النوم معناه الهلاك له ..
     وكانت قدمه على " البنزين " وهو يضغط عينه من حين إلى آخر بأصابعه .. وكذلك جبهته .. ليظل بكامل وعيه ..
     وكانت السيجارة فى الواقع تلهب حواسه وتزيده يقظة أكثر من أى شىء آخر ولهذا أكثر من التدخين ..
     وكان يتطلع إلى حافة الصحراء الجرداء .. وإلى ظلام الليل وسكون التلال الشاحبة .. وعنده احساس من يمضى بين السحاب ..
     وكان الظلام الدامس والسكون المطبق والتلال الصغيرة وأعمدة البرق والتليفون القائمة فى جانب من الطريق .. تكون أشباحا غريبة الشكل تبدو للمشاهد ثم تختفى بسرعة مذهلة ..
     وكانت الريح عندما تدوم وتزأر فى جوف الصحراء يخيل إليه أنه يسمع صياح الغيلان هناك وهى تتعارك فى مجاهل هذا التيه ..
     ولما سكنت الريح وصفت الدنيا أمام باصرته .. أخذ يعد فى ذهنه ما هو مقدم عليه من عمل للشركة ..
     وقفزت إلى تفكيره فكرة تسلطت عليه وظلت تلاحقه .. وأفسح لها المجال حتى أتعب ذهنه ..
     وعندما اقترب من الاستراحة فى عرض الطريق .. أدهشه أنه لم يشاهد نور البرج من بعيد .. لا بد أنه نسى .. ولم يحس بنفسه .. أغفى وهو لايدرى من فرط التعب الذى بذله فى النهار ..
     ورفع غطاء المحرك .. ودخل المقصف وجلس فى الزاوية البحرية .. وطلب فنجانا من القهوة .. وكان فى المقصف قليل من الرواد .. وكان منهم من يتعشى ومنهم من ينتظر ..
     وشاهد حسن فى الجانب المقابل من الشرفة سيدة جميلة تجلس وحدها وكان مرافقها ذهب إلى دورة المياة .. وطال مكوثه هناك .. فأخذ يبادلها النظرات وأحس فى عينيها ببريق المودة .. وكانت هيفاء القد جميلة العينين .. وكانت تدخن .. وتجذب الأنفاس من سيجارتها بشكل يثير الرغبة فى شفتيها ..
     وبدت فى الليل وفى سكون الصحراء .. أجمل ما يتمناه الرجل ..
     ومن صفحة السماء الجهمة .. انعكست أضواء المصباح الكشاف الدائر فى برج الاستراحة وكان هو الشىء الآلى المتحرك الذى يشوه السكون ويشوه جمال الوجود فى هذه اللحظة ..
     وكانت المرأة قد غيرت وضعها عندما عاد إليها الرجل .. فحول حسن وجهه شطر الصحراء .. وكانت أطباق الليل تتجمع هناك .. وألسنة حمراء من الضوء .. ومن الظلال تخلق أشباحا وتبدو كأنها تتحرك عادية على الرمال ..
     ولما سجى الليل جلس يدخن ويشرب القهوة .. وبدت الصحراء الساكنة .. والسماء الزرقاء .. والريح الرخاء .. كأنها تعمل جميعا على صفاء نفسه وارخاء العنان لآماله .. فى مدى ثلاث سنوات سيكون مديرا للشركة ويزيح عبد الحى وكل منافس آخر عن طريقه .. وسيكون الأمر كله له ..
     وأحس بعد أن شرب القهوة بأنه استفاق ونشط قليلا .. أزاحت عنه بعض التعب وأيقظت حواسه .. ولكنه كان يحس بحنين إلى النوم وبدا له أن يتحرك .. إلى البهو الداخلى ليسأل عما إذا كانت توجد غرفة خالية فى الاستراحة .. ليقضى الليل فيها وفى الصباح يستأنف رحلته .. ومع أنه وجد الغرفة فإنه عدل عن رأيه واتخذ سبيله إلى السيارة وانطلق بها فى جوف الصحراء .. وريح الليل ترطب وجهه وأغلق الزجاج الجانبى .. وأخذ يضغط على البنزين كان يود أن يقطع المسافة الباقية ، فى ساعة وربع الساعة على الأكثر ، يصل بعدها إلى مشارف سموحة ..
     وأحس بعد أن قطع حوالى خمسين كيلو مترا بالعربة ، وجد نفسه وحيدا فى الطريق ، كانت العين تخترق الظلام .. ورأسه كله متفتح لليل وكان صوت الرياح يعوى .. وبصر بسواد من بعيد يسد عرض الطريق ثم وضح أمامه .. فإذا به قافلة من الجمال تعبر الطريق من الجانب الشرقى إلى الجانب الغربى .. وكانت قد أثارت حولها سحابة من الغبار ..
     واختفى لمعان الاسفلت .. واستطاع من خلال سحابة الغبار .. أن يتبين وجه الطريق بصعوبة .. فرفع قدمه عن البنزين وتمهل فى سيره تماما ..
     ولما عبرت القافلة وتبددت سحب الغبار أخذ يسرع .. وعادت الأرض الصلدة تحت بصره والفوسفور يضىء فى منتصفها .. وبدا الطريق كالبساط المرصع بالدر ..
     وفى الحال أسرع حسن .. عاد إلى " البنزين " يضغط بقدمه .. وفى مثل خطف الريح انطلقت السيارة .. وفجأة أبصر شيئا يتحرك أمامه .. فضغط بكل قوته على الفرامل ولكنه لم يستطع أن يتفادى ما وقع .. وأحس بجسم السيارة وهو يضرب جسما آخر فى عنف بالغ .. وانتابته رعشة .. وفزع .. انتابته حالة لم يكن مقدرها ولا معدا العدة لها وحدث ما لم يكن يتوقعه أبدا .. فانطلق بالسيارة هاربا وهو لايدرى ولا يلوى على شىء ..
     وأحس بالعرق يسيل من جبهته على خديه .. وابيض وجهه .. ولم يعد يبصر الطريق توقف ووضع كفه على صدغه وفتح فمه وأغلق عينيه .. لقد استسلم للمقدور فى لوح الأزل وتراجع بظهره وهو يحس بطنين أذنيه .. ثم وضع رأسه على عجلة القيادة .. ماذا جرى ما الذى حدث ولماذا يحدث هذا الشىء البغيض .. ولماذا يقدر له هذا .. ويحدث فى مثل خطف البرق ..
     ورفع رأسه ونظر إلى الخلف .. ولم يكن هناك ما يمكن مشاهدته .. ووجد نفسه يفتح باب السيارة ويخرج منها .. وضرب الهواء صفحة وجهه ومشى على رجليه راجعا إلى حيث وقع الحادث .. وكان يقترب وهو يحبس أنفاسه وأحس باضطراب شديد كلما اقترب من الرجل .. وجد اعرابيا يرتدى الجلباب وقد طار غطاء رأسه .. ونظر إلى وجهه وعرف أنه شاب وكانت الصدمة قاتلة .. ولكن المصاب لم يمت .. بعد ..
     كانت أنفاسه لاتزال تتردد وعيناه تحملقان فى رعب ودون وعى فى الشخص المجهول الذى يقف على رأسه ثم كأنه عرفه وعرف أنه السبب فيما حل به من عذاب فبدت منه نظرة غيظ مستعر ارتجف لها حسن ..
    ورأى حسن أن بغير من وضعه فشده من جلبابه .. وأبعده عن الطريق خشية .. أن تمر عليه سيارة أخرى .. ثم تركه وعاد إلى سيارته .. واستأنف السير وأحس بيديه الممسكتين بالمقود لزجتين من العرق ..
     وكان يحسب نفسه قد أراح خواطره كلها ولكن بعد بضعة كيلو مترات .. توقف .. ونزل ثم غير اتجاهه وحول وجهة السيارة وعاد يستقبل من طريقة ما استدبر .. وعلى بعد قليل من الرجل الملقى على الرمال توقف .. ونزل من السيارة .. وتقدم على مهل نحو الرجل مرة أخرى وفى تلك اللحظة .. أحس بقلبه يتوقف .. كانت الخواطر تدمره .. وكان يتوقع مرور أية سيارة فى تلك اللحظة وربما شاهد سائقها الرجل المصاب ويعرف الأمر كله ..
     وبسرعة تقدم نحو الرجل ونظر إلي وجهه فوجد أنه يدمى واحدى عينيه قد غطاها الدم .. كانت الصدمة فى الجبهة ..
     ووقف حسن ينظر إلى وجه الرجل الذى سيغير مجرى حياته .. ويرسم فى لوح القدر خط شقائه .. فشعر بكراهية شديدة نحوه ومقت بالغ .. وفى دوامة من الخواطر المريعة العاصفة أخرج سريعا مسدسه من جيبه وأطلق رصاصة على الرجل فى الجبهة فى مكان الاصابة .. وأسرع إلى سيارته .. أنه لايحب أن يرى مشهد رجل يموت .. واستدار بالعربة متجها إلى الإسكندرية كما كان ..
     وبعد ربع الساعة أحس أنه استراح .. وأنه فعل الشىء الذى لا بد من فعله .. فما معنى أن يغير إنسان عديم القيمة مجرى حياته .. أنه شيطان خرج من جوف الظلام وارتمى أمام العربة فلا بد من قتله ..
     وزادت سرعة السيارة وكان دمه يتدفق فى عروقه وهو يقترب من كشك المرور فى العامرية أنه الحاجز الوحيد .. وبعده يدخل حدود المدينة وينطلق فى الأرض الواسعة .. وأحس بضربات قلبه كالمطارق .. وقلل من سرعته نوعا ما وعيناه ترقبان الجندى من بعيد بحذر ويقظة وأشار له هذا ليعبر دون أن ينظر إليه أو إلى السيارة .. وانطلق حسن كالسهم .. وهو يود أن يصيح فى قلب الليل لقد نجوت .. لقد انتهى الحادث .. بالنسبة له .. وإذا عثروا على الرجل فسيعرفون أنه مات من ضربة الرصاص .. وليس من صدمة بالسيارة ..
     وأحس بالفرحة لأنه نجا ..
     لقد انتهى الأمر وعليه الآن أن يتسلى بالمناظر وينسى نفسه .. وأن يقاوم رد الفعل والقلق وأن يبحث عن البهجة ..
     وأخيرا لم يبق بينه وبين سموحة سوى خمسة أميال ثم يدخل بين المساكن والحدائق الجميلة .. ويحس بأنفاس الحياة .. ويخرج من هذا التيه المعذب .. ان السيارة الآن لم تعد لها علاقة بالموت بعد أن دخلت أضواء المدينة ..
     لقد انتهى هذا الحشد من القلق والعذاب واللوعة فى تيه الصحراء ..
     انك لا تشعر بالخوف فى المدن ولا تحس به يسرى فى الياف لحمك إلا فى الصحراء .. حيث الظلام والتيه ..
     وكانت أضواء المصابيح الأمامية ترتمى على الأرض كأنها تقبلها .. كان حسن شاعرا بالفرحة وخيل إليه أن المدينة تتزين لاستقباله وأن الأرض مفروشة بالبساط .. أن المعجزة تحدث فى أية ساعة وقد حدثت الآن ..
     كان يجاهد ليرى الثغر الجميل كما شاهده من قبل ..
***    
     ومال فى شارع جانبى عندما اقترب من محطة الرمل .. ليودع السيارة فى جراج هناك .. يعرفه ..
     ودخل بالعربة الجراج وفتح بابها وخرج منها وهو يتنفس الصعداء .. وأمسك بالسلسلة التى فيها مفتاح المحرك .. فى يده .. واتجه إلى عرض الطريق ..
     وقبل أن يبعد سمع السائس يصيح به :
     ـ النمرة .. يابيه .. النمرة سقطت ..
     وكأنما صوبت إليه من الخلف طعنة من خنجر مسموم فاستدار ..
     وحدق فى رعب ليواجه الضربة .. رجع إلى السيارة ودار حولها .. دار أكثر من دورة ونظر إليها من أمام ومن خلف كانت نمرة السيارة الأمامية .. ساقطة ولا أثر لها .. وأدرك أنها سقطت هناك فى مكان الحادث من أثر الصدمة .. هناك بجوار جسد الرجل الذى صرعه منذ ساعات ..
     كانت تحمل أرقاما خمسة تبدأ بالإثنين وتنتهى بالأربعة .. وما أشبهها بالأرقام التى تعلق على صدر المسجون ..
     وفى وضح النهار سيجدون النمرة هناك .. ويعرفون السيارة وصاحبها .. انها أرقام ناطقة .. فيا لحكم القدر ..
     وقال للسائس وهو مضطرب كلاما لامعنى له يعلل به سقوط النمرة ثم خرج من الجراج .. وسار فى المدينة على غير هدى فى الليل الساكن .. ثم وجد نفسه يمشى فى شارع البحر ويصغى إلى صوت البحر .. ويراقب النجوم فى السماء .. ولكنه كان فى أعماقه ينظر إلى باطن نفسه ..
     ان حياته زائفة والأمانى والأحلام كلها باطل فى باطل .. والوجود نفسه زائف .. والإنسان لايملك من أمر نفسه شيئا .. وما قدر سيكون .. ما قدر سيقع .. والحياة عديمة القيمة بالنسبة له .. ان وجوده الحقيقى عدم باطل الأباطيل ..
     ومال إلى فندق هادىء وكانت الساعة قد اقتربت من الثانية صباحا .. ودخل غرفته وأغلق الباب عليه ..
     لقد ظل هناك ساعات متمددا فوق الفراش محدقا فى سقف الغرفة وقد عجز عن التفكير كان يتنفس بمشقة .. ويحس بالعرق يبلل الفراش ..
     كان وحده على السرير .. ولكن كان يرقد إلى جانبه شبح الرجل الذى صرعه .. وتحول كل شىء إلى خوف .. خوف حولته الأحداث سريعة إلى مثل عذاب السعير .. وسرى فى جسده الألم والرعب ..
     ولو كان فى القاهرة لحدث صديقه عبد المنعم وقص عليه ما حدث .. ولخفف عنه بلواه ولعمل بمشورته ونصحه .. ولكنه وحيد الآن للعذاب والقلق .. ان الاحساس بالعدم .. يسيطر عليه وأغلق عينيه من الغم وشحب لونه ..
     وسمع جلبة فى الدور السفلى وحركة أقدام سريعة على السلم .. فتصور أن البوليس عرف مكانه وجاء يطارده الآن ولم يكن على استعداد لملاقاتهم ولم يكن على استعداد لأن يواجه أحدا على الاطلاق ..
     أخرج المسدس من جيبه وأطلق على رأسه النار وأعقبه السكون ..
     وكان الصاعدون على السلالم قد سمعوا صوت الطلقة ولكنهم حسبوها آتية من الخارج فلم يعيروا المسألة التفاتا ومضوا إلى حجراتهم ..
     أما كاتب الفندق فقد رأى وميض النار فى غرفة النزيل الجديد واشتم رائحة البارود .. وعرف بتجاربه وحسه ما حدث تماما .. دون أن يتحرك من مكانه ..
     وحرك قرص التليفون فى الحال وهو ينظر إلى الساعة ..


=================================    
نشرت القصة فى صحيفة أخبار اليوم 11/11/1961 وأعيد نشرها فى كتاب " زوجة الصياد " ل محمود البدوى
=================================

























السكين



     عاد زكى إلى مسقط رأسه بعد غيبة طويلة .. ووجد القرية كما تركها منذ أربعة عشر عاما .. بنخيلها .. وبيوتها السوداء .. وأشجار الجميز الضخمة على الترعة .. لم يتغير شىء من معالمها .. ولم يتطور ، ورأى شيئا واحدا جديدا بجانب السكة .. بناية بيضاء فى الأرض الفضاء الملاصقة للسوق .. ووجد الأطفال يلعبون فى ساحتها .. ولما سمعوا الجرس انطلقوا إلى الفصول ..

     وسر زكى لمرآهم .. ونظافة ثيابهم .. وحدث نفسه بأنه جيل جديد ينمو فى الهواء الطلق والشمس .. وليس فى البرك والمستنقعات كما نما هو وشب ..

     وشعر برجفة وهو يغوص بنعليه فى التراب .. ويقترب من بيت والده .. وطافت برأسه الذكريات .. حتى تندت عيناه .. وكانت زوجته فوزية تمشى بجواره صامتة .. وتسحب الطفلين وراءها .. وكان هو يحمل سلة وضعوا فيها ملابسهم وبعض أشياء اشتراها لجنازة أبيه .. سجائر وبن ..

     ولاحظ وهو يمشى على جسر الترعة .. أنه قد خرج من المحطة ولم يعرفه أحد من الأهالى .. كان يرتدى بدلة سمراء قديمة .. ولكنه حرص على أن تبـدو نظيفة ، فلبس فوقها وهو فى القطار جلابية حتى لا تتسخ ..واشترى لزوجته فستانا جديدا أسود .. ولولديه جلبابين ليبدوا جميعا فى أحسن حال .. ولكن عينيه كانتا تخونانه .. وصفحة وجهه كانت تنطق بالتعاسه .. وتعبر عن مقدار ما يعانيه من الألم والجوع ..

***  

     ولما اقترب من البيت مسح عينيه .. وأدخل امرأته مع الطفلين من باب الحريم ثم تقدم إلى المضيفة .. ورأى ثلاثة أشخاص على بابها ينتظرون المعزين .. وبينهم أخوه عبد الرءوف .. فسلم عليهم ودخل ووجد الناس جالسين فى صفوف على الدكة والكراسى .. فجلس فى أول مكان صادفه .. وعرفه أخوه .. حسانين وكان قريبا من الباب ولكنه لم ينهض إليه ..

     وبعد فترة قصيرة .. عرفه الجالسون عن قرب .. وبدأ الهمس فى الجنازة وتركزت عليه عيون أهل القرية .. وكان المقرىء يرتل القرآن فاكتفوا بتسديد نظراتهم نحوه .. فلما فرغ المقرىء من التلاوة .. نهض الشيخ سعفان مأذون القرية وخطيبها .. وجلس بجواره يواسيه فى مصابه .. ثم أقبل الشيخ رضوان وكيل العمدة وجلس عن يمينه وحوله بعض الفلاحين .. وبدا من نظرتهم جميعا أنهم أنكروه ، فقد فوجئوا برقة حاله وبساطة ملبسه .. على خلاف ما سمعوا عنه .. فقد قيل لهم أنه يدير عملا مربحا .. وأنه " حوش " الألوف .. فوجدوه أفقر منهم ..

     وكانت عيونهم جميعا تود سؤاله ومعرفة أحواله ، ولذلك شعروا بالراحة عندما سأله الشيخ سعفان :
     ـ فين .. دلوقت .. يا زكى أفندى ..؟
     ـ فى إسكندرية ..
     ـ إسكندرية واسعة .. فين يعنى ..
     ـ فى كرموز ..‍‍

     وارتعش فمه فضم شفتيه .. ولاحظوا اضطرابه فأسكتهم الشيخ رضوان بعينيه .. لم يسألوه شيئا آخر .. وقالوا له :
     ـ ربنا يعينك ..
     وقدم له الشيخ رضوان سيجارة .. فأشعلها ونكس رأسه .. ولاحظ زكى أن ضوء " الكلوب " يسقط على كم سترته الممزق .. فثناه ليخفى التمزيق .. ولكن الكم كان يعود إلى وضعه الطبيعى من أقل حركة وزاده هذا اضطرابا ..

     وكان الأهالى من القرى المجاورة يعزون اخوته الثلاثة .. أما هو فلم يتقدم إليه أحد بتعزية لأنهم لم يعرفوه .. فلما عرفوه .. كانوا يتجاهلون وجوده ..

***   

     وحوالى الساعة التاسعة ليلا .. والبرد يسفح الوجوه .. شاهد زكى ابنه " بليغ " يقف على باب المضيفة حائرا .. يبحث فى الوجوه .. فلما استقر بصره على وجه أبيه قفز إليه .. وهمس :
     ـ ماما .. عاوزاك ..
     وكان يبدو على الغلام أنه ضرب حتى بكى ..
     فاحتضنه زكى لحظة ..
     وقال أحد الموجودين :
     ـ ابنك دا يا زكى أفندى ..؟
     ـ أيوه ..
     ـ من الست ..
     ـ أيوه ..

     ونهض .. ليقطع الحديث .. ودخل على الحريم .. ووجد قريباته جالسات فى الصالة ، وكان هناك " فانوس " فى السقف .. يرسل الأضواء على وجوههن .. وبحث بينهم عن زوجته .. فوجدها هناك تجلس وحدها .. وعلى وجهها الحزن الأخرس .. وكان ابنها الصغير .. نائما بجوارها .. من غير غطاء ..

     ووجد العيون جميعا ترمقه .. وسمع عمته نبوية تسأل :
     ـ دا بسلامته .. زكى ..
     ـ أيوه يا عمتى ..
     ـ مالك .. كده .. اتغيرت .. وأنت لسه صغير .. ماتطلعش من دور ابنى عبد السلام ..
     ـ كده .. الدنيا ..
     ـ كده يا ابنى .. عذبت نفسك وعذبت " أبوك " .. مات وكبده مقطع منك ومن عمايلك .. وخليته حرمك من الميراث ..
     ـ أنا مش عاوز حاجة من حد ..
     ـ يا ابنى مسكين .. وباين عليك الجوع .. والعرى .. والست بترقص فينهى كباريه ..
     ـ يا عمتى بلاش الكلام دا .. احنا جايين ليلة نحضر الجنازة .. ومن الفجر مسافرين ..

     ونظر إلى زوجته المسكينة .. فوجد وجهها يتمزق من السياط التى تلهبه .. وأنبه ضميره لأنه السبب فى كل هذه الآلام .. فقد كانت ترفض أن تسافر معه ولكنه ألح عليها فى السفر لأنه كان يتصور أن أهله ينسون كل شىء بعد وفاة أبيه .. وليريهم أن زوجته امرأة ككل النساء .. وليست كما يتصورون .. ولكن ظنه خاب .. وأخطأ فى كل تقدير .. فالعزبة غير المدينة ..

     وحدثته زوجته وهى باكية بضرورة السفر الليلة فعرفها أنه لاتوجد قطارات فى الليل تقف على هذه المحطة الصغيرة .. فحزنت ، وقضت الليلة فى مكانها .. منبوذة لايحادثها أحد .. وقدموا لها الطعام مع الخدم فرفضت أن تأكل ..

***  

     ونزل هو إلى المضيفة .. جلس فى بيت أبيه كالغريب .. جلس فى البيت الذى ترعرع فيه ، كأنه لاتربطه به صلة ، شعر بشىء يتمزق بداخله .. وأن السكين الحادة التى قطعت صلته بأبيه وأخوته .. قد وصلت إلى الأعماق .. وتساءل .. أتشعر بهذا ، وينظر الناس إليه هكذا .. لأنه حرم الميراث .. لأنه لاصلة مادية تربطه بالأسرة .. وهل هذا الشىء المادى هو الذى كان يربطه بأهله ، فلما أصبحت هذه الصلة غـير موجودة أصبح هو غير موجود فى نظرهم .. وعذبه التفكير ..
     وأخذه الشيخ رضوان ليتعشى وينام فى بيته .. 

***   

     وفى الصباح جلس الشيخ رضوان يشرب مع ضيفه الشاى وقال زكى وكأنه يحدث نفسه :
     ـ فكرت .. وأنا فى القطار أن أعيش فى بيت أبى .. لأنه قد خلا واخوتى ، كل يعيش فى بيته الخاص .. وفكرت فى أن أزرع فدانين أو ثلاثة بالإيجار فإن الزراعة ليست غريبة علىَّ .. أنها مهنتى .. فكرت فى هـذا .. ولكن أخى عبد الرءوف قال لى أن بيتنا لا تعيش فيه الراقصات ..
     ـ يجب أن تعرف طباع الناس فى الريف .. والقرية صغيرة ..
     ـ ولكنها لم ترقص فى حياتها سوى ليلة واحدة .. الليلة التى شاهدتها فيها وفى اليوم التالى .. كانت فى بيتى .. وكانت زوجتى .. وهى امرأة شريفة ككل من تعرفهم من النساء .. ولقد أنقذتها من الدنس .. فهل أعاقب على هذا إلى الأبد ..
     ـ ولماذا لم تنجح فى حياتك وأنت متعلم .. وغيرك من الجهلاء يتركون القرية إلى القاهرة والإسكندرية .. ويعودون بثروة ..
     ـ لقد لازمنى سوء الحظ .. وكلما تقدمت لعمل .. أشاع الناس عنى أن والدى طردنى .. لأننى تزوجت راقصة .. وأننى فاسد .. فهل ينجح فى الحياة من يوصم بهذه الوصمة ..

     هناك سكين حادة تقطع صلتى .. بالحياة والناس فتقطعت بى الأسباب وعشت ضائعا ..
     ـ فى اعتقادى .. أنك ضعت .. لأنك كنت دائما تشعر بأنك أخطأت وارتكبت اثما .. وأنت عاص .. فانغمست السكين فى ظهرك وحملتها ودرت بها ولهذا لم تنتصب أبدا ..
     ـ وماذا أعمل الآن ..؟ هل أميت الأطفال جوعا ..
     ـ أخرج هذا السكين من ظهرك وإذا كنت تشعر بالوزر الآن لأنك تزوجت براقصة فطلقها .. وواجه الحياة والناس ولا تجعل شيئا يشدك إلى الأرض .. واترك هذه الحساسية الشديدة التى حطمت أعصابك ..

     وابتسم زكى .. وأطرق .. ثم رفع رأسه على صوت الشيخ وهو يقول :
     ـ والآن هيا لتأخذ " قطر تسعة " وسأذهب معكم إلى المحطة ..

     وخرج زكى واسرته من القرية كما دخلوها .. دون أن يحس بهم أحد .. ورافقهم الشيخ رضوان إلى المحطة .. وقطع لهم التذاكر .. وقبل أن يدخل القطار .. وضع فى يد زكى حزمة من الأوراق ..
     فسأله زكى فى استغراب :
     ـ ما هذا ..؟
     ـ هذا دين للمرحوم والدك عندى .. دين قديم .. وكنا نتعامل من غير سندات مكتوبة .. ولقد قررت بعد أن علمت حرمانك من الميراث .. أن أعطيه إياك وحدك .. لأنه حقك ..
     ـ ولكنه مبلغ كبير ..
     ـ ابدأ به الحياة ..
     ـ أشعر الآن بأن السكين خرجت من ظهرى ..

     وتناول يد الشيخ ليقبلها فجذبها هذا سريعا .. وصفر القطار ..

     وعندما نظر زكى إلى طفليه وزوجتـه فى العربة .. وجدهم يبتسمون .. ولم يعرف سبب ابتسامهم .. فتقـدم إليهم مبتسما لأول مرة .. وبدت المزارع نضرة على الجانبين .. كل شىء باسم ..

====================================   
نشرت القصة بصحيفة الشعب فى 4/1/1957 وأعيد نشرها فى مجموعة قصص لمحمود البدوى بعنوان " زوجة الصياد " و " قصص من القرية " ـ مكتبة مصر ط 2006
==================================== 














لجنة الشباك


حدث منذ سنوات .. وفى صباح يوم من أيام السبت وجد موظفوا أحد المكاتب الحكومية .. شباك حجرتهم مكسورا .. وقد يكون الشباك كسره الفراش الذى ينظف الحجرة مرتين فى الشهر .. أو كسر قضاء وقدرا بفعل الزوبعة التى ثارت فى الليلة الماضية .. أو بأية وسيلة أخرى لا شأن لهم بها .. ولما كان الوقت شتاء والبرد قارسا .. فقد أخطروا المصلحة تليفونيا .. وقال لهم الموظف الذى رفع السماعة :
ـ اتصلوا بالمعاون .. لأنه المختص ..
وقال لهم المعاون :
ـ بلغونا الحادث رسميا ..
وتجمع الموظفون الخمسة الذين فى الحجرة .. ليبلغوا الحادث إلى المصلحة .. واستغرق منهم هذا العمل النهار كله ..
وكانت النافذة المكسورة بحرية .. وهى فى مواجهة باب الحجرة الذى به مفصلة تالفة وأخرى مكسورة .. ولذلك لا يمكن إغلاقه قط .. فعانى المساكين من شدة التيار الهوائى البارد .. وفعل الرطوبة فى حجرة لاتقع عليها عين الشمس ..!!
وابتدأ المدخنون .. والمتزوجون منهم يسعلون أولا .. ثم عم السعال الجميع ..
*** 
وذات صباح دخل ثلاثة من الغرباء على هؤلاء الموظفين الحجرة .. وكان يتقدمهم فراش المكتب .. وكان أحدهم يمسك بيده ورقة وقلما .. واقتربوا من الشباك وعاينوه وكتب أحدهم شيئا فى الورقة وألقى الطويل منهم نظرة عالية على الموظفين ثم خرجوا ..
وكان الموظفون يتوقعون أن يصلح الشباك فى صباح اليوم التالى .. بعد هذه المعاينة .. ولكن مر أسبوع .. وشهر والشباك على حاله .. والتيار البارد .. يشتد .. والمساكين يتعذبون ..
*** 
وفى ضحى يوم .. دخل عليهم أربعة آخرون الحجرة .. وكان معهم فى هذه المرة المعاون .. وعاينوا الشباك من الداخل والخارج .. وألقوا نظرة عابرة على سقف الحجرة وخرجوا ..
وسأل الموظفون الفراش عن هؤلاء فقال لهم :
ـ أنهم من مصلحة المبانى ..!
وسر الموظفون .. إذ جاء بعدهم بيومين .. اثنان من العمال .. وفكوا الزجاج المكسور وخرجوا ..
ولكن لم يركب الزجاج .. وإنما جاء عاملان فى صباح يوم وخلعا المصراع الخشبى الأيمن بعد أن تبينت لجنة المبانى أنه هو السببب فى كسر الزجاج ..
وأخذ الهواء البارد يصفر فى جنبات الحجرة ..
*** 
وعندما جاءت اللجنة الخامسة لمعاينة الشباك وكان يتقدمها رجل فارع ضخم .. فال الموظفون فى الحجرة :
ـ أنه وزير الأشغال .. جاء بنفسه ليعاين الشباك ..
وأخذ الموظفون من تلك اللحظة يتندرون ويضحكون ويقلبون المأساة إلى ملهاة ونسوا الحديث عن الكادر .. والعلاوات والترقيات .. وكثر ضحكهم حتى نسوا كل ما يعانونه من آلام .. وأصبحوا بعد ذلك كلما شاهدوا اثنين أو ثلاثة يمرون فى الطرقة .. يقولون عنهم وهم يضحكون :
" لجنة الشباك "
*** 
وهكذا ومرت الأيام .. ولم يصلح الشباك .. والمساكين يقاسون من البرد ويتألمون ومرض واحد منهم .. فزاره الموظفون فى بيته وهم يتأسفون .. واشتد عليه المرض .. وبعد اسبوع قضى نحبه .. وشيعه الموظفون إلى قبره .. وهم يبكون ..
*** 
وبعد أن رجعوا من المقبرة .. ودخلوا الحجرة .. وجدوا الشباك المكسور قد أصلح ..
 ونظروا إلى وجوه بعض فى استغراب ودهشة .. ثم عرفوا أن الذى أصلح الزجاج هو فراش المكتب .. جاء بعامل ودفع له سبعة قروش من جيبه .. فأصلحه فى ثلاث دقائق ..
=======================  
نشرت القصة فى ص . الجمهورية بالعدد 202 بتاريخ 29/6/1954 وأعيد نشرها فى كتاب " زوجة الصياد " سنة 1961
======================









القنطرة


طريق الإسكندرية الزراعى من أجمل الطرق فى بلدنا وعلى جانبيه تقوم أجمل المزارع على الاطلاق .. مزارع نضرة منسقة على أحد ضروب التخطيط الزراعى .. وتحيط بها الأشجار العالية كأنها تحميها من الزوابع والرياح الهوج .. أنها كثيرة الشبه بالريف على ضفاف الدانوب حيث ترى الجمال فى كل شبر من الأرض ..
ولكن هذا الطريق الجميل يعترضه بحر شبين .. وتعترضه الكبارى .. وفى ثلاثة مواقع منه كانت تفتح الأهوسة لمرور المراكب الشراعية .. ويغلق الطريق ويتعطل مرور السيارات ساعة وأكثر من ساعة .. وهذا لا يساير النهضة .. بل يعوقها ولما أحست مصلحة الطرق أخيرا بالضرر الناتج عن اغلاق الطريق .. شرعت فى اقامة كبار جديدة معلقة فوق المياة ..
وبذلك تمضى السيارات فى طريقها ولا تتعطل لحظة ..
وتم بناء كوبريين على أحدث طراز فى هندسة البناء .. وبقى الكوبرى الثالث على وشك الانتهاء ..
وكان المهندس المعمارى اسماعيل عمار .. قد انتدب للعمل فيه منذ شهر لمرض المهندس المقيم .. وكان إسماعيل شابا فى الرابعة والثلاثين من عمره صغير الوجه متوسط الطول لا يشكو من علة بدنية ولكنه يبدو حزينا ويحمل مثل هم يعقوب .. وكان الحزن ينطبع على وجهه منذ الطفولة فقد ماتت والدته بعد مولده بساعات ومات أبوه حزنا عليها فى السنة نفسها التى قضت فيها .. وتركا الطفل الوليد .. لليتم والجوع ..
وكان يسمع وهو يحبو من الذين احتضنوه من أهله أنه منحوس وأنه تسبب فى موت أمه وموت أبيه .. فنشأ وهو يرى النحس يلازمه فى كل خطوة .. ولكنه أحس أن القدر قد غفل عنه وفتح له صفحة جديدة بعد أن تزوج .. فقد تزوج من فتاة جميلة رقيقة الجسم وادعة من أسرة متوسطة الحال .. وكانت تحبه وتحرص على راحته ..
وحملت العروس بعد شهور من زواجها .. ولكن صحتها الضعيفة لم تحتمل الجنين فأسقطت .. ومنعها الطبيب من الحمل .. وإلا تعرضت للخطر البالغ ..
وقد عاش الزوجان وهما يتخذان كل وسيلة لمنع الحمل .. وكانا راضيين بذلك ..
وعاش معها وهو يحس بالسعادة فى شقة أنيقة .. بضاحية القبة .. وكان يجاهد دوما ويشتغل كثيرا ليحفظ لها الرغد من العيش ويجعلها تعيش فى بحبوحة .. وكان يفكر فى شراء سيارة صغيرة .. ويبنى لنفسه فيلا ليجعلها تحس بالرغد أكثر .. وشغل نفسه بالعمل فى الصباح وبعد الظهر .. وكان يرسم تصميمات العمارات والفيلات ويبيعها ويكسب ..
وكان يسافر كثيرا للعمل .. وكثرة الأسفار تضايقه لأنه يترك زوجته وحدها ..
ونزل عليه ضيف قدم من الريف لم يكن فى الحسبان .. شاب من أهله قدم القاهرة .. ليبحث عن عمل .. وكان فقيرا وبائسا .. وطالت أيام تعطله .. فلم يرده إسماعيل واستقبله بالترحاب وأنزله أحسن منزل .. وكان يطعمه ويعطيه مصروف يده ليشرب السجائر ويذهب إلى السينما .. وقد ظل فى بيته سبعة شهور يقاسمه طعامه وشرابه ومصروفاته الشخصية .. ومع ذلك لم يتذمر إسماعيل ولم يبد عليه أنه شعر بثقل الحمل ..
وكان " سامى " بطبعه خاملا متكاسلا .. لا يجد فى السعى ليعمل وترك الناس يسعون له وقد استراح لحياته فى بيت اسماعيل .. وبعد أن يخرج إسماعيل لعمله يجلس يتحدث مع زوجة صاحبه .. وعلى مر الأيام والشهور مالت الزوجة إلى الشاب لأنها وجدته دائما أمامها بعكس زوجها الذى كان مشغولا على الدوام بعمله وكثير الأسفار .. 
وعاد الزوج ذات ليلة من سفره .. وفتح الباب بهدوء كعادته .. وقبل أن يضغط على مفتاح النور .. سمع صوت زوجته مع الشاب .. فى غرفة الزوجية .. فاقترب فى الظلام .. وهو يحبس أنفاسه .. ووقف مبهوتا وقد دارت به الأرض لحظات .. ثم تماسك .. وخرج بهدوء من الباب الخارجى كما دخل دون أن يحس به أحد ..
وسافر إلى طنطا فى أول قطار .. ثم ذهب إلى منطقة العمل .. ورجع إلى بيته فى وضح النهار ..
ودخل فى هدوء وكأنه ما رأى شيئا .. ولم يجد الشاب قريبه فى البيت وحدثته زوجته أنه وجد عملا فى بنى سويف ورحل منذ الأمس .. وتلقى الخبر من غير تعليق ..
كان متعودا أن يملك زمام أعصابه وأن يتلقى ضربات القدر فى سكون .. فلما رجع إلى البيت لم يثر فى وجه زوجته ولم يضربها ولم يقتلها .. ولم يطردها لأنها يتيمة ولا أهل لها .. واكتفى بأن احتقرها فى نفسه وطردها من قلبه .. وعاش معها كأخ .. لم يقربها بعد خيانتها له أبدا ..
وكان هذا التحول من جانبه مدعاة للسؤال والحيرة وحاولت أن تعرف السبب .. وتستشف ما فى خاطره ولكنها عجزت ..
وشاء القدر أن يكشف خيانتها فقد حملت من الشاب الذى نزل ضيفا عليهم وأسلمته نفسها .. وأخذ جسمها يكبر فى البيت تحت سمع زوجها وبصره وعاشت فى عذاب مدمر وهى تنظر إلى زوجها فى توسل ..
وكان يقابل نظراتها بالهدوء والسكينة كأنه لا يرى شيئا ..
واشتد عليها الألم والكرب .. وحاولت أن تخلص نفسها من هذا العذاب فأخذت دواء ليجهضها .. فسبب لها الدواء ألما شديدا ولكنها لم تجهض .. وكررت المحاولة بعد أيام فماتت .. ودفنها فى سكون ودفن معها سرها ..
وعاش بعد الحادث حزينا على حظه فى الحياة وعلى ضعفها وضعفه وكان يعتبر نفسه المسئول عن سقوطها .. ويحمل وحده وزر ما حدث .. فهو الذى آوى الرجل الغريب فى بيته .. وأتمنه على عرضه وتركها معه فى عزلة تحت سقف واحد فى الليل والنهار .. جعل لهما السبيل إلى الخيانة سهلا .. فقد كانت زوجته فى أول عهدها بالزواج تحبه ولكنها لم تستطع المضى فى حبها إلى النهاية .. ملته بعد شهور .. أنه انصرف عنها إلى عمله .. واستغرق فيه ونسيها ..
وكانت فى حاجة مستمرة إلى من يرفه عنها بالحديث .. ويحدثها عن كل التوافه التى تشغل بها المرأة .. كان الحديث الجدى يضجرها .. وكان عمل زوجها نفسه لا تجد له طعما .. وعاشت فى فراغ وأبعد شىء عنه وإن كان قريبا منها ..
وعاش حزينا .. وكان فى عمله وبين زملائه يتصور أنه كلما وقف على عملية لازمها النحس وتوقفت ..
وفى العملية التى باشرها والتى بدأت بالكوبرى على بحر شبين غرق شاب من العمال .. ثم صدمت " الكمرة " عاملا آخر وكادت تقتله .. وكان يتصور أنه السبب المباشر لكل هذه النكبات .. وكأن لعنة السماء حطت عليه فى كل مكان ينزل فيه ..
وكان يقابل هذا بصبر وثبات وكأنه لايخلو من التأثر وكذلك كان المشاهد له يغلبه الألم لحاله ..
وكان يجلس وحيدا يرقب ويتأمل ما حوله .. وبرغم عذابه يفكر فى مستقبل بلاده ونهضتها ويسره تطورها .. فعمل هذا الكوبرى المعلق تطور ..
وكان يرى المدن والقرى التى حوله فى هذا الطريق .. ويقدر المعنى الحقيقى للتعاون ويحدث نفسه أنه فى كل بيت صغير يمكن أن توجد حديقة .. وتوجد ثياب .. نظيفة .. ويوجد أناس يفهمون معنى المستقبل ومعنى الاشتراكية ..
*** 
وأغلق إسماعيل بيته فى القاهرة بعد موت زوجته .. وأقام فى فندق فى طنطا ليكون قريبا من العمل ..
وفى الصباح كان يأخذ أول قطار إلى المخيم ..
وكان المخيم قريبا من الكوبرى .. ومن ورائه مزارع القطن والذرة .. وكانت الأرض منبسطة كالحصير وفسيحة .. ويحس بأنفاس النبات حوله وهو ينمو فى كل يوم ويطول ساقه ..
كانت الأرض حواليه تنمو وتتمدد .. ويحس بتجديدها ويحس بالحياة فيها ..
وكان يرى الفلاحين يحملون الفئوس مع بزوغ الشمس وينطلقون إلى الغيطان ليجنوا من خير الأرض أو يزيدون الأرض خيرا ..
وكان يحس أنه يمتزج بعرق هؤلاء الفلاحين وشاركهم كدهم .. فالكوبرى الجديد هو القنطرة التى ستجعلهم ينطلقون منها دون عوائق ودون حواجز إلى السوق .. حاملين الخضار والبيض والزبد والدواجن إلى أهل المدينة .. ومن المدينة ستأتى إليهم اللوريات محملة بالقماش الجديد والسماد .. والدواء والشاى والسكر ..
وعلى قدر ما تتجدد الحياة فى الطريق وتتطور يتطورون هم ..
وعندما ينقلون الخضار وفائض المحصول .. بعربات الحمل السريعة بدل الجمال والعربات التى تجرها الخيل والبغال .. وتختفى الوسائل البدائية كلها من حياتهم سيحسون بالتطور الكامل ..
وكانت القرى من حوله ساكنة .. ويخيم عليها النخيل .. ويتقدمها الزرع النضير وكان يرى شجر الكافور بجذوعه السامقة يتمايل مع الريح .. وشجر الصفصاف ثابت فى الأرض ..
وكان يرى البيوت .. والقنوات والزرع والنخيل .. والأعناب .. والثوب الذى يرتديه الفلاحون .. والوجوه .. فى قليوب .. هى نفسها فى منوف وفى ايتاى البارود .. وفى كفر الزيات ..
وبمثل بطء الزرع ونموه .. كان يرى القرية تتطور .. فى بطء .. وتنمو وتزدهر فإن بعض البيوت السوداء .. أخذ يظهر فى حيطانها البياض والفلاح الممزق الثوب ارتدى الثوب الجديد .. والحافى النعل لبس النعل ولبس الجورب .. والذى كان يرتعش من سماع صوت الخفير .. أصبح يناقش المأمور ..
وسمع اسماعيل بخبر التأميم للشركات والحد من ملكية الأرض .. فى " الراديو " وهو جالس فى المخيم .. فطار من الفرحة .. وسأله زميل له :
ـ مبسوط يا إسماعيل ..؟
ـ جدا .. وإذا لم نتطور بعد عشر سنوات ونصبح أمة كبيرة فنحن لا نستحق الحياة ..
وقد تعلم من وجوده فى المخيم بين المزارع والعمال الشىء الكثير ..
وكان يعجبه الصبر فى العمال والجلد على مكافحة الصعاب .. فعندما ينهار الجرف يقيمون غيره .. وعندما تسقط " كمرة " من الحديد فى الماء يغوصون وراءها وعندما لا ينفذ المسمار فى عروق الخشب يظلون وراءه حتى ينفذ .. ويتعلقون بين السماء والأرض ليدخلوا الحبل فى " البكرة " .. لقد تعلم منهم الصبر والجلد والكفاح ..
ولم يجد نفرا منهم يشكو من شىء أبدا .. وكثير منهم ترك زوجته وأولاده فى البيت وحدهم وأمه مريضة .. ومنهم من ترك أهله فى الصعيد وعاش فى القرية .. ويرسل إليهم نتاج كده وبينهم وبينه مئات الأميال ومع هذا لم يجد واحدا منهم يشكو من شىء أبدا .. ويخلط بين مشاعره العائلية وبين العمل ..
أنه عندما يرفع كمرة الحديد .. ويحرك الونش ينسى كل شىء آخر فى الحياة ..
وعندما يتحرك مع عشرة من رفاقه حاملين الثقل على أكتافهم .. لينقلوه من مكان إلى مكان يحققون المعنى الحقيقى لكلمة التعاون .. فلا شىء يمكن أن يقوم وينهض به الفرد وحده .. ولا أحد قائم بذاته .. فالإنسان يعيش بغيره جزء من كل يتحرك ..
وعندما جاء فى الأسبوع الأول وجلس على كرسى من الخشب أمام الخيمة كان قلبه يرتعش من الخوف ..
ورأى العمال يحملون التراب والحديد .. ويصبون الرصاص ويصهرونه .. ويشعلون النيران الكبيرة والشمس ساطعة ..
ويلقفون الأكر .. ويصبون الأسمنت .. ويجرون بالزلط محملين بالأثقال .. رأى أمامه مردة .. لا يعوقهم شىء أبدا ..
وفى اليوم الرابع .. سقط واحد منهم فى الماء .. وكان إسماعيل يتصور أن العمل سيتوقف ولكن رفاقه سحبوه فى دقائق وسار العمل فى طريقه .. وهم معرضون فى حياتهم للموت كما هم معرضون للحياة .. ولكن ما من شىء يجعلهم يوقفون العجلة الدائرة .. ولو مات واحد منهم فسيدفنونه فى زمن أقصاه ساعة ثم يرجعون من المقبرة إلى المجارف وكمرات الحديد إلى مد الحياة ..
*** 
وفى يوم الثلاثاء .. وكانت الشمس قد مالت إلى خدرها .. حركوا الونش الذى يحمل الثقل كله .. ثقل مئات الأطنان دفعة واحدة وكان يمكن وهم يثبتون " الجنازير " حول جسم الكمرات أن تسقط واحدة .. وتقتل عشرة من العمال على الأقل وخاف إسماعيل وارتعش وعادت فكرة النحس إلى رأسه .. حيثما تتطلع عيناه تقع الكارثة ..
وخشى أن يموت أحد هؤلاء المساكين بسبب نحسه .. فتوارى بعيدا عن المكان .. ذهب وابتعد فى وسط الحقل ..
ولكن الأسطى توفيق لم يكن يفكر فى خواطره السوداء أدار الونش وهو يصيح بصوته الجهورى :
ـ صلوا على النبى يا رجال ..
وتحركت الرافعة ..
وكان إسماعيل يتصبب عرقا وهو بعيد هناك وارتفع الكوبرى .. وسارت الحياة ..
فانتفض .. وأدرك أن أعصابه المريضة هى التى صورت له هذه الهواجس كلها فيما سلف من حياته ..
وبمثل هذه الأعصاب المريضة واجه زوجته وعاش معها .. وفشل .. ولم تجد فى كنفه القوة التى كانت تتطلبها من الرجل .. كانت تريد رجلا يحوطها بسياج من القوة والمناعة ويعوضها عن ضعفها .. ولكنها وجدته أكثر منها ضعفا ففلتت من يده وسقطت ..
ونفث إسماعيل دخان سيجارته وهو يحرك بصره فيما حوله من أزاهير ونبات ..
ونظر على رأس الطريق برجل طويل يتحرك فى اتجاه الشمال .. ومعه عنزة .. وقرد وامرأة ..
ولما اقتربوا من المخيم .. وقف الرجل يلاعب القرد وتجمعت حوله حلقة من العمال ..
وكان إسماعيل جالسا فى مكانه .. مرتديا قميصا قصير الكمين .. فاقترب القرد منه وأخذ يرقص ويظهر الاعيبه ..
ـ سلم يا ميمون .. على البيه ..
وسلم ميمون .. ثم دار فى الحلقة ..
وتفقد اسماعيل قلمه الأبنوس فلم يجده فى جيب قميصه .. فصاح فى الرجل صاحب القرد :
ـ هات القلم يا لص ..
فردت المرأة وقد تغير لونها :
ـ إن زوجى لا يسرق ..
ـ وأين ذهب القلم ..؟
ـ لا ندرى ابحث عنه ..
وبعد حوار طويل تخلله النكات والضحك أعاد الرجل القلم إلى إسماعيل وهو يضحك .. فسأله هذا :
ـ لماذا .. تحمل سوطا .. أبهذا السوط علمته السرقة ..؟
ـ أبدا .. إننى ما ضربته بالسوط لأعلمه شيئا قط ..
ـ وكيف علمته السرقة ..؟
ـ إنه لا يعتبرها سرقة .. أنه يمزح .. مجرد مزاح ..
ولمعت عيناه ..
ـ ولماذا تحمل السوط إذن ما دمت لا تستعمله ..؟
للعنزة ولها .. وأشار إلى المرأة .. ولكنى ما لسعت به جلد هذه ولا تلك .. يكفى أن ترياه فى يدى لترهبانى ..
ـ هذا توحش ..
ـ سمه ما شئت .. ولكنها طريقتى فى الحياة وسأظل أحمل السوط ما دمت قادرا على حمله ..
وابتسم إسماعيل والرجل يتحرك لفض السامر ..
وجمع له العمال عشرة قروش .. وأعطاه إسماعيل عشرة مثلها .. ومضت القافلة فى الطريق الزراعى ..
وكان الرجل ممسكا .. بالقرد بسلسلة طويلة ..
ولكن أطلق العنزة .. واطلق المرأة وإن كان يبدو جليا أن هذين أشد التصاقا به وركونا إليه من القرد القابض عليه بالسلسلة ..
*** 
وبعد الغروب بقليل اغتسل إسماعيل وهو يستعد للذهاب إلى المحطة ليركب القطار إلى طنطا ..
ومرت عربة كبيرة محملة بالأثاث ووقف السائق .. بجانب مخيم العمال ليشرب .. وسأل وهو ينظر إلى الكوبرى الجديد :
ـ  الكوبرى .. تم ..
ـ نعم ..
ـ وتستطيع أن تمر عليه يا حضرة المهندس ..
وفكر إسماعيل ..
لماذا لا تمر العربة ما دام الكوبرى قد انتهى العمل به .. ولماذا لا يشاهد هو هذه التجربة ويكون أول من يراها ويسعد بها ..
وقال للسائق :
ـ بالطبع تستطيع أن تمر .. وستكون الأول ..
ـ شكرا .. هذا جميل .. ألا تريد أن تذهب إلى الإسكندرية يا حضرة المهندس .. تقضى الليلة على البحر .. وأعود بك فى الصباح .. إلى هنا ..
وكانت الفكرة بنت ساعتها حقا ولكنها جميلة .. ولماذا لا يذهب وقد فرغ من عمله .. وفى ضحا اليوم التالى سيسلم الكوبرى رسميا ويستطيع أن يكون هنا قبل ذلك ..
وركب بجوار السائق .. من أمام .. وركب العامل الذى كان مرافقا للسائق فى الخلف مع الأثاث ..
وعندما تحركت العجلات فوق أول شبر من الكوبرى الجديد .. أحس إسماعيل بطنين فى أذنيه .. كان يود أن يصيح بالسائق ليتوقف .. ولكن السائق سار فى طريقه .. وعبر الكوبرى فشعر إسماعيل بهزة .. شعر بنشوة عارمة هزت كيانه ونقلته من حال إلى حال .. أحس بأنه اجتاز بهذه القنطرة من حياة إلى حياة ..
وكان الهواء رخيا منعشا وأنوار القرى الصغيرة تلمع على الجانبين والزرع الأخضر .. يبدو فى الظلام كالبساط الضارب إلى الزرقة ..
وكانت السيارة تمضى ومصابيحها تنير الطريق المرصوف .. والسيارات الأخرى تتخطاها أو تتخلف عنها .. ولكن السائق كان يسرع .. ويسير على نسق واحد لا يغيره ..
وكان مالكا زمام أعصابه .. ويعرف كل شبر فى الطريق .. وأعطاه إسماعيل سيجارة فأحس بالأخوة لهذه الحركة .. وسأله إسماعيل :
ـ لمن السيارة ..؟
ـ ملك الحاج محمد الإسكندرانى ..
ـ من الإسكندرية .. أو المسألة لقب ..
لا .. من الإسكندرية .. وعنده عشر سيارات مثلها ..
ـ وأنت مبسوط ..؟
ـ جدا .. رجل عصامى أمين .. ليس له ضريب .. بدأ شيالا فى محطة مصر ..
ـ والشغل ماشى ..؟
ـ طبعا .. الناس كلها تبحث عن الأمين .. والأمانة تعلن عن نفسها .. وإذا سقط منك مسمار من كرسى عوضك عنه الحاج محمد .. وأنا أتحرك بالساعة ومثلى يعمل الآخرون ..
وسر إسماعيل لحماس السائق .. وقال مؤكدا كلامه :
ـ  صحيح العمل أمانة .. والتجارة أمانة .. واستمرار الحياة بالنسبة لى ولك .. أمانة أولا وآخرا ..
ـ ظهرت أنوار المدينة ..
ـ إنك تسير بالساعة حقا ..
وابتسم السائق ..
ودارت عجلة السيارة على مهل وأحسوا بأنفاس البحر ترطب وجوههم .. وكانت السكة بالنسبة للسائق مألوفة ويقطعها بحركة آلية من رجليه ويديه ولكنها بالنسبة لإسماعيل شىء آخر طاف به احساس جديد .. فهذه أول مرة يركب فيها عربة لورى محملة ويقطع مثل هذه المسافة ..
وكان بعد الكوبرى الذى اشترك فى بنائه ويمر عليه منذ ساعات بهذه السيارة يحس أنه يستطيع أن يفعل أشياء أخرى نافعة .. ويدفن الماضى بكل ما فيه من عذاب ومرض ..
وفى الدوران الواسع الذى أمام محطة سيدى جابر .. طلب من السائق التوقف ..
ونزل ودفع يده فى جيبه وقدم للسائق ورقة بخمسين قرشا ولكنه رفضها بشدة وانطلق إسماعيل إلى محطة الترام ..
ركب الترام المتجه إلى محطة الرمل ولم يكن له وجهة ولكنه كان يود أن يقضى الليل فى أى مكان قريب من البحر ..
وفى محطة سبورتنج تذكر بنسيونا على البحر .. تملكه عجوز نزل فيه من قبل أكثر من مرة فاتجه إليه .. وسار قدما فى شارع البحر .. ثم أخذ ينظر إلى أرقام البيوت ولما وقف أمام الرقم الذى يقصده دخل من الباب .. وصعد السلالم متأنيا إلى الدور السابع ووقف على باب الشقة .. ووجد الظلام فى الداخل ولم يسمع حسا ولكنه قرع الجرس .. وأضاء نور ضعيف من الداخل .. وفتحت الباب امرأة أجنبية ترتدى ثوبا يكاد يتمزق من لحمها المكتنز ..
وسألها :
ـ مدام مارى هنا ..؟
ـ مين .. مدام مارى ..
ـ صاحبة البنسيون ..
ـ أوه .. لقد سافرت إلى إيطاليا منذ سنة .. وأنا هنا مكانها .. هل تريد شيئا ..؟
ـ لقد اعتدت النزول عندها كلما قدمت إلى الإسكندرية ..
ـ حضرتك وحدك .. أو معك عائلة ..
ـ وحدى ..
ونظرت السيدة إلى الداخل  ثم عادت تتفرس فى وجهه ..
ـ وتريد الغرفة شهرا أو شهرين ..؟
ـ شهرا واحدا .. وسأقضى الليلة وأسافر غدا وأعود بحقيبتى بعد يومين ..
ـ وتدفع ايجار الشهر من الآن ..
ـ أجل ..
ـ تفضل لتراها ..
ودخلت أمامه إلى غرفة صغيرة أثاثها بسيط ولها شرفة على البحر ..
وكان البيت كما عهده نظيفا ومرتبا ..
وسألته وهى ترد النافذة لشدة الهواء :
ـ أعجبتك الغرفة ..؟
ـ جميلة ولقد نزلت فيها من قبل .. وبكام الإيجار يا مدام ..؟
ـ أعتدت أن أؤجرها بخمسة وعشرين جنيها ولكن لأنك وحدك سأكتفى بعشرين ..
ـ موافق ..
ولم يكن من طبعه المساومة ..
ـ دقيقة واحدة سأعدها ثم أجىء بالملايات ..
وجلس ساكنا وعيناه على البحر .. وأشعل سيجارة ودخلت المدام بالملايات وبعض الفراش .. ولكنها لم تفرشها ثم خرجت سريعا تهز جسمها لتأتى بشىء آخر ..
ومع صوت أقدامها على البلاط سمع صوتا آخر صوت أنثى أكثر شبابا ونعومة يحاور ويجادل المدام .. ويهددها بالخروج من البيت لأنها أسكنت رجلا ..
ولم يكن الرجل سواه .. بالطبع فألقى السمع وهو كئيب ..
ـ يا مدام لماذا تحرمينى من النقود فى فترة الصيف وأنا أعيش من هذا طول العام .. أنا مسكينة ..
ـ ولكن اشترطت عليك .. وقبلت أن أدفع ثلاثين جنيها لهذه الغرفة بشرط ألا يسكن فى فترة وجودى رجل .. أنا مصرية يا ستى ولا أستطيع أن أسكن فى بيت واحد مع رجل غريب ..
ـ إنه مؤدب جدا يا مدام .. شوفيه ..
ـ الظاهر أنك لست فاهمة ..
ـ أنا فاهمه يا مدام .. شوفيه الصبح وإذا كان غير مهذب يخرج ..
ودخلت عليه صاحبة البنسيون وقد تغير لونها حاملة دورق الماء المثلج وكوبا .. فسألها إسماعيل :
ـ فيه شىء يا مدام ..؟
ـ الست زعلانه .. ست مصرية ومعاها ابنها الصغير .. لا تريد رجلا يسكن معها فى البيت ..
ـ لا داعى لمضايقتها .. عندها حق فى هذا سأذهب والغرف كثيرة ..
ـ الغرف كثيرة .. ولكن لا توجد غرفة فى جمال هذه وأنا أخذت الإيجار .. وأنا فى أشد الحاجة إلى كل قرش منه .. فكيف أرده .. أنا مسكينة ..
ـ لكن هذه سيدة .. يا مدام وحدها فقدرى .. وافهمى احساسها ..
ـ طيب .. حضرتك تخرج الصبح .. ومن أين أجد سيدة أخرى تشغل الغرفة .. أنا مسكينة .. وفى حاجة إلى هذه النقود ..
وفاضت عيناها بالدموع بسرعة وفرشت له السرير وخرجت وهى تمسح عبراتها وهى تتمتم بالإيطالية ..
ثم خرجت وسمعها تشتبك مع السيدة الأخرى فى معركة كلامية .. ثم انقطع الكلام .. وخيم السكون ..
وبعد ربع الساعة .. رآها تمر من الصالة .. وتنظر إلى ناحيته ولما وجدته لا يزال ببدلته سألته :
ـ لماذا لم تخلع بدلتك وتستريح فى الفراش ..؟
ـ سأظل جالسا على الكرسى ببدلتى حتى الصباح ..
ـ لماذا ..؟
ـ لكى لا أضايق السيدة ..
ـ الست خلاص سكتت .. وأنت دفعت الإيجار استريح ..
ـ لا يمكننى ..
وخرجت تهرول وتنقر على غرفة السيدة بعنف .. ولما خرجت هذه إليها .. أخذت صاحبة البنسيون تحدثها بما جرى بالإيطالية والعامية .. والفرنسية .. وكل لغة تعرفها .. وظهر التأثر على وجه السيدة .. فخرجت خطوة وتطلعت من الصالة .. ورأى إسماعيل نصف الوجه فقط ونصف العنق .. وكان كل شىء آخر محجوبا فى الداخل .. وأحس برعشة .. كانت العين ندية .. وحدقت فيه لحظة .. ثم سدرت .. وتمتمت الشفة القرمزية بشىء لم يسمعه .. شىء مثل :
ـ يقطعنى .. عذبت .. السيد ..
ثم توارت وردت الباب بخفة ..
وأغلق عينيه وهو يسبح فى واد من العنبر وفى مثل جزيرة الأحلام .. أغلق عينيه ليتصورها بكل وجهها وكل جسمها .. وكل ملابسها عندما خرجت من الباب ..
تصور شعرها .. وأنفها وعينيها .. وصدرها .. والقرط فى أذنها والخاتم فى أصبعها ثم القميص على لحمها الطرى .. والشبشب فى قدميها الصغيرتين .. وهى تخلعه قبل أن تنام ..
وخلع سترته ونام على الكرسى بقميصه وبنطلونه .. وظل السرير مرتبا كما كان ..
واستيقظت قبله المرأتان وظلتا تتأملانه من الصالة وهما تحسان بالأسف ..
وكانت السيدة سميحة أشد من صاحبة البنسيون ..
وبدا لها هادئا فى نومه ..
وكان وجهه متأثرا بالشمس ووجنتاه قد نبتت فيهما لحية صغيرة .. وظلت سميحة تراقبه كان شابا هادئا .. لكن أحست أن وجهه يحمل حزنا أكثر من سنه .. وأن مثل المشارط مزقت جبهته حيث يفكر ويثقل رأسه بالفكر ..
وصحا وغسل وجهه سريعا .. ليخرج ..
وقالت صاحبة البنسيون :
ـ سأصنع لك قهوة .. والسيدة آسفة لما حدث .. وبودها لو تعتذر ولكنها خجولة ..
ـ لا داعى للاعتذار .. وشعورها طبيعى وأنا أفهمه .. وأقدره ..
ـ الحقيقة أنا آسفة جدا .. فقد سببت لك التعب .. دون موجب ..
قالت هذا السيدة نفسها ..
ظهرت فى الصالة ترتدى ثوبا أسود مخيطا من قطعة واحدة .. وتبدو فيه جميلة ومحتشمة .. وبدا الأسف على الشفة القرمزية والعينان النديتان تفيضان حنانا ..
وتأمل السيدة وقد امتلأ فؤاده بالبهجة وأحس بمثل رائحة البنفسج وهى تقترب منه ..
كانت ترتدى ثوبا جميلا من الكتان الأسمر .. وكان وجهها نموذجا فريدا للنساء المتمتعات بالجمال والصحة ..
وكان ثمة خوف ظهر على وجه المرأة وهى تقترب من الرجل الغريب ولكن حين وقفت أكثر من دقيقة ورفعت بصرها إليه ورأت التأثر الذى ظهر على ملامح وجهه واستبد به تلاشى احساس الخوف منها فى الحال واطمأنت تماما ..
وكانت صاحبة البنسيون قد جاءت بالقهوة .. فوقف على طاولة فى الصالة يحتسيها بتمهل ويحادث السيدتين وكان ابن السيدة سميحة قد خرج فى هذه اللحظة من غرفته والتصق بأمه فاحتضنته فى حنان ..
وأخذ إسماعيل يداعبه وهو يرى فيه صورته عندما كان فى سن الخامسة مثله ..
وقالت صاحبة البنسيون .. وهى تحرك الصينية موجهة الكلام للسيدة سميحة :
ـ السيد ربما لا يعود يا مدام ..
ـ كيف هذا .. إذا لم يعد .. سأخرج أنا ..
ـ أرأيت يا سيد .. المدام .. رضيت عن وجودك معنا ..
وكانت المرأة السمينة تضحك ..
ـ حضرتك .. ستؤنسنا لمدة شهر .. ونمضيه فى حمايتك .. وستحمى الصغير أيضا ..
ـ بالطبع ..
وكانت الوجوه الثلاثة تبتسم فى وجهه .. فخرج مسرورا ..
ولكنه قبل أن يخرج من الشارع وقف عند دكان على الناصية وابتاع قطعة شيكولاته كبيرة .. وعاد بها مسرعا إلى البيت وأعطاها بيده للطفل ..
ووقفت الأم تنظر إليه طوال دقيقة كاملة وقد عرفت شعورا رائعا جديدا ..
وهمت أن تقول له شيئا .. ولكنه كان قد أسرع وهبط السلالم .. فخرجت تراقبه من الشرفة وهو يمضى وحده مع الشمس الساطعة ..
*** 
وفى اليوم التالى جاء فى العصر وبيده حقيبة كبيرة فرحبتا به ..
وقضى مع الثلاثة السيدتين والغلام عشرة أيام .. وهم لا يرونه إلا لماما .. كان يخرج مبكرا .. ويعود فيجدهم قد دخلوا الفراش أو استعدوا للنوم ..
وقبل أن ينتصف الشهر .. خرج بالغلام فى بكرة الصباح ليتنزه معه على البحر وتركت الأم غلامها يذهب معه ..
وعاد الغلام محملا بأكياس الحلوى وهو يرقص من البهجة وشكرته الأم والدموع تندى عينيها الحزينتين ..
وتركها ودخل غرفته ..
*** 
وذات غروب .. رآها تمشى وبيدها الغلام كما اتفق على الكورنيش .. فسلم وجرى إليه الغلام والتصق به .. فمشى بجوارهما فى الاتجاه نفسه .. حتى قطعا الطريق إلى رشدى ..
ولما مروا من أمام الكازينو الهادىء اقترح عليها الجلوس فى الداخل .. فوافقت فى الحال ..
وجلسوا فى الشرفة الخارجية وطلبوا عصير الليمون .. وأخذوا يتحدثون ..
وحدثها عن نفسه وعن عمله وعن القنطرة التى عبرها وأحس بعدها بالحياة .. وحدثها عن زوجته التى ماتت .. وكل ما جرى منها .. بسببه هو .. وكان يلقى اللوم على نفسه فى تأثر ..
وعرف أن السيدة سميحة أرملة .. مات زوجها منذ أربع سنوات .. وترك لها هذا الطفل ولم يكن يعنيه أن يعرف اسم الزوج الراحل ولا مهنته .. كان تفكيره كله محصورا فى هذه السيدة الجالسة معه الساعة .. فى هذا المكان ..
كان يرى وجهها تحت ضوء القمر .. لقد كانت تبتسم وترد بشفتيها القرمزيتين ..
وتنظر إليه وإلى الطفل .. كأنها بدأت توزع بينهما عواطف قلبها ..
وشعر بالبهجة وقال وهو ينظر إلى أعلى :
ـ إن السماء الليلة جميلة ..
ـ الليلة فقط ..؟
ـ أجل إنى أراها لأول مرة جميلة ..
ـ وكذلك أنا أراها جميلة ..
***  
وكانت صفحة القمر قد بدت مشرقة على الماء المتموج ..
وبدا لهما جليا أن عواطفهما تذوب ساكنة فى هذا البحر .. ولم يكن من السهل عليهما أن يتبادلا كلمات أخرى .. ظلا ساكنين وكان يود أن يلتصق بها أكثر وأكثر ليتناول يدها ويضغط عليها ..
وكان يحس بأن الأيام التى قضياها معا تحت سقف واحد .. حتى وأن لم يتقابلا فيها إلا لحظات قد نسجت خيوطها حولهما وزادتهما قربا ..
وعندما خرجا من الكازينو .. ارتضيا السير على الأقدام أيضا .. وحمل الغلام على كتفه مسافة طويلة على الرغم من رفضها ..
وكان يشعر بسعادة وكانت وهى تسير بجانبه ملاصقة للبحر والموج والقمر والسماء الزرقاء لايزال يغلب عليها شعور لا تدركه تماما شعور بأنها تحلق فوق الأرض ولا تسير عليها ..
حالة من الانفعال لم تمر على مثلها أبدا .. وغمرها احساس فياض بالأنوثة تفجر وكاد يمزق الصدار الذى يضم صدرها ..
مرت بها ذكرى نابضة بالحياة فأمسكت بها .. ورشاش البحر يندى خدها ..
*** 
وعلى باب غرفتها ودعها وسلم على الطفل ..
ودخل غرفته وفى الظلام تذكر زوجته حميدة .. إن حميدة قد ماتت وأنه رأى عينيها مفتوحتين وجسمها الأبيض قد ازرق .. ماتت وأصبحت خرساء إلى الأبد ولا شهوة ولا عرض لها فلماذا يخافها ..
إن المأساة لن تتكرر أبدا لقد ماتت وماتت كل عواطفها وكل ما يتصل بها .. ودفن كل هذا إلى الأبد .. شعر بأن رغبة جديدة تولد فيه .. رغبة خيرة .. أن كل ما يرجوه هو أن يعيش مع إنسان ليحيا والحب حياة ..
***  
وفى الصباح حدثها ببساطة برغبته فى الزواج منها ..
فنكست رأسها من الخجل وأعطته يدها ..
ولما وضع فى أصبعها الخاتم خرجا ومعهما الطفل إلى جهة المنتزة ودارا فى الحديقة .. وقال لها وهو يحس بالابتهاج مشيرا إلى قنطرة فى الحديقة :
ـ هيا .. نعبر هذه القنطرة ..
فاجتازتها معه وهو يضحك جذلان ..
وسألته :
ـ لماذا فعلت هذا ..؟
فقال باسما :
ـ لقد عبرت النهر من حياة إلى حياة ..
وأمسكت بيده وفهمت .. وسار الثلاثة معا فى الحديقة حتى خرجا إلى الميدان الواسع ..
وكانت تحس مثله بأنها عبرت شيئا مثل القنطرة .. وأنها ستظل دوما بجانبه تشد أزره فى حياته الجديدة ..
========================== 
نشرت فى ص . أخبار اليوم بالعدد 880 بتاريخ 16/9/1961 وأعيد نشرها فى كتاب " زوجة الصياد " سنة 1961
========================


    
 





فندق على الدرب




شارع كلوت بك شارع رئيسى .. ومع ضيقه وقصره وكثرة منحنياته ومنعطفاته وتحول المرور عنه .. وضرب المعاول فى جدرانه فإنه لا يزال هو النهر المتدفق بالحياة ..
وفى خلال ساعات النهار والليل ترى فيه هذا الحشد المتحرك من الترام والسيارات والناس .. الحشد الذى تراه فى كل الشوارع الكبرى ..
وفى تباشير الصباح تشاهد فيه مع أول خيط من النور بائعات اللبن والزبد قادمات من الريف .. ومتجهات فى خطا سريعة إلى قلب المدينة ..
وفى هذا الشارع يرى الريفيون قاهرة المعز لأول مرة ..
وتحت بواكيه .. ومقاهيه .. وحاناته .. يجلس السابلة والشحاذون ولاعبو الثلاث ورقات  .. والعاطلون .. والأفاكون .. والذين يذبحون الطريدة بعنق الزجاجة والذين يضربون بالموسى ويخرقون الجسد بحد السكين ..
وفى هذا الشارع التاريخى الرهيب الذى كان المنفذ الوحيد لحى البغايا يوجد نصف فنادق القاهرة على الأقل ..
وهى فنادق متقاربة ولكنها تختلف فى الشكل والمظهر الخارجى .. فمنها القديم الذى تآكلت جدرانه .. وزحف عليه الطحلب .. والحديث المبنى على أحدث طراز فى المعمار ..
وما أكثر الغرف فى هذه الفنادق ..
وفى هذه الغرف العارية إلا من قليل من الأثاث يتحرك خليط عجيب من الناس .. وكل غرفة تروى حديثا عن روادها المختلفين ..
وفى ليلة من ليالى أبريل .. وبعد الساعة التاسعة على التعيين فى يوم من أيام الخميس .. سار شاب نحيل جميل القوام فى هذا الشارع الحافل يقرع باب هذه الفنادق وحتى الساعة العاشرة لم يكن قد وجد غرفة واحدة خالية ..
وكان متخففا من حمولته تماما .. ليس فى يده إلا حقيبة صغيرة وفى جيبه البطاقة وفى محفظته أجر الغرفة ولكنه لم يعثر حتى على حجرة على السطح ..
فقد حجزت الغرف مع الغروب .. لعشاق كرة القدم الوافدين من الريف لمشاهدة فريق برشلونة المشهور ..
وامتلأت الفنادق عن آخرها وأصبح كل أربعة ينامون فى غرفة ووضعت المراتب والوسائد فى الطرقات والردهات .. وحتى فى المداخل الصغيرة ..
ومع كل ذلك فإن شفيق لم ييأس وظل يروح ويجىء فى الشارع واستراح فى مقهى على الدرب نصف ساعة يأخذ أنفاسه .. ويستجمع .. أشتاته ويفكر فى مخرج من حاله .. ولم يكن يحب أن يتجه إلى فنادق العتبة أو سيدنا الحسين .. لأنه عاش فى هذه الفنادق كلها .. وأصبح معروفا لأصحابها ولم يكن فى ميسوره أن يعود إليها .. وكان فى يقينه أنه لابد أن يعثر على غرفة هنا مهما طال الأمد .. فهو الحى الوحيد الذى لم ينزل فيه بعد ولم يجرب فيه مغامراته ..
وعثر وهو يشترى علبة سجائر من دكان تحت البواكى على لافتة باهتة ملطوعة فى جدار بيت من البيوت القديمة وكانت تشير إلى نزل .. فلما خرج من تحت البواكى إلى وسط الشارع ورفع رأسه ألفاه فندقا كبيرا من أربعة طوابق .. وحمل حقيبته واتجه فى الحال إلى الباب ودخل فى ردهة طويلة فيها بصيص خافت من النور .. وتقدم نحو كاتب الفندق وسأله بصوت هادىء :
ـ هل توجد غرفة ..؟
 فنظر الكاتب إلى أناقة الشاب وانسجام هندامه .. وسأله :
ـ أمعك بطاقة ..؟
ـ أجل ..
وأخرج الشاب البطاقة من جيبه ..
فلم ينظر إليها كاتب الفندق .. وقال :
ـ هناك مسافر الليلة .. ولكنه حتى الآن لم يأت ليأخذ حاجاته وإذا لم يحضر بعد عشر دقائق 
.. سيفوته القطار وإذا حضر .. فستكون الغرفة لك ..
ـ فى أى قطار سيسافر ..؟
ـ قطار الصعيد .. وهو يتحرك الساعة الحادية عشرة إلا ربعا ..
وسحب شفيق كرسيا وجلس وهو مستريح النفس إذ لم يكن يشعر بأى قلق على الاطلاق مهما كانت الأحوال ومن خلال عيشته الطويلة فى الفنادق اعتاد على مثل هذه الأشياء ولم يكن يضيره أن يجلس فى المدخل إلى الصباح .. أو أن يجول فى الحى إلى أن يطلع النور .. المهم أن يترك حقيبته فى مكان ما ..
وجاء المسافر بعد دقائق وحمل أشياءه وانطلق إلى المحطة .. وتبع شفيق خادم الفندق إلى الغرفة وكانت فى الطابق الثالث والسلم جدرانه متآكلة .. وعليه سجاد ممزق الجوانب باهت اللون .. وقال له الخادم .. بعد أن وقف به على باب الغرفة :
ـ إن حظك طيب .. فلا توجد غرفة واحدة فى القاهرة كلها الليلة .. والناس سينامون فى المساجد .. ومنهم من سيفترش الرمل حول الاستاد ..
ـ ربنا رحيم ..
ودخل شفيق إلى غرفة واسعة لها نافذة على الطريق .. وفيها سرير كبير من الحديد وصوان قديم للملابس .. وطاولة .. وكرسى من الخيرزان .. وكنبة عتيقة مهلهلة .. وكان على السرير بطانية واحدة .. ولا توجد ملايات ولا فرش أخرى ..
وكانت آثار النزيل الآخر .. لاتزال فى الغرفة .. أعقاب السجائر .. وخطوات القبقاب على الأرض ..
وجلس شفيق على المقعد المتهالك يدخن .. ويفكر فى طريقة للعشاء .. ولم يكن فى جيبه غير الريال الذى دفعه أجر الليلة مقدما ..
وكان متعبا فى الواقع فقد ظل النهار كله يراوغ حتى أفلت من مطارديه ..
وقد زادته الغرفة تعبا وكآبة .. كانت رحبة والجدران عارية تماما .. وكان فى وسطها كليم فوق حصير بال ..
وعلى الحوائط الأربع خطوط مكتوبة بالحبر والرصاص ومحفورة بالظفر .. وحتى بالمطواة .. وكان يبدو من الكلام المكتوب أن الغرفة قد استضافت خليطا غريبا من النزلاء وأن بعض هؤلاء يحب أن يسجل تاريخ الإقامة والسفر وما مر به من أحداث فى داخل الفندق وخارجه ..
وأحس شفيق بالجوع الشديد ..
ولكنه رأى أن يصبر ساعة .. ويكلف خادم الفندق باحضار الطعام من أى مطعم من المطاعم الساهرة .. ولا يدفع مليما كعادته ويتعلل بعدم وجود الفكة .. ويطلب من الفندق أن يضيف ثمن الطعام على الحساب .. فقد أعجبه الفندق وهو باق فيه شهرا على الأقل .. فإن أعماله تقتضيه أن يمكث فى القاهرة .. هذه الفترة الطويلة وتنجح الطريقة فى تسع حالات من حالة واحدة متعذرة للاخفاق .. وإذا أخفق فسيحاول محاولة أخرى وما أكثرها عنده ..
وكان صرير الأبواب والزعيق .. وصوت الخدم يوحى بأن الليلة هى ليلة المهرجان .. السنوى لعيد من الأعياد ..
ولما أحس بعضة الجوع .. نهض وترك الغرفة ونزل السلالم .. فألفاها أشد قذارة مما وجدها منذ ساعة .. ووجد فى المدخل الخارجى للفندق خادما فطلب منه أن يأتى له بالعشاء .. من أى مطعم قريب .. وجبة كباب شهية وكان يحب أكله فى مثل هذه الليالى الباردة ..
ثم عاد إلى غرفته وأخذ يذرع أرضها رائحا غاديا كالنمر المحبوس فى قفصه ..
وفتح الأدراج فوجد علب سجائر فارغة ومشطا مكسورا .. وكان من عادته أن يفتش كل غرفة يدخلها .. بعد رحيل النزيل .. فقد وجد مرة ساعة ذهبية .. ومرة أخرى عثر على قلم من الأبنوس .. وأخرى قداحة ..
وكثيرا ما يجد شيئا ما يتركه النزلاء وهم يهرولون فى الساعة الأخيرة ليلحقوا بالقطار .. ولكن فى هذه الغرفة الواسعة لم يجد شيئا على الاطلاق .. واستبطأ الخادم الذى كلفه بجلب العشاء ولم يكن فى الغرفة جرس .. فنزل إلى الطابق الأرضى .. مرة أخرى يستحثه ويسأل عن سبب تأخره ..
ووجد الكاتب فى مجلسه من المدخل فأخذ يحادثه بلباقة حتى أنشأ مودة نماها سريعا بالضحك والايناس .. وسأل عرضا عن الكباب الذى طلبه وقال له كاتب الفندق على الفور :
ـ حالا .. يأتى ..
وأرسل الكاتب خادما ثانيا فى أثر الأول ..
وسر شفيق .. وجلس بجانب الكاتب يسامره ..
ودخلت من الباب فى هذه اللحظة شابة تحمل فى يدها حقيبة .. واجتازت الردهة الخافتة الضوء فى خطوات بطيئة كان يبدو عليها بوضوح التعب من المشوار ..
وسألت فى صوت خافت جدا :
ـ أتوجد غرفة ..؟
ـ أبدا يا سيدتى مع الأسف ..
وأكد الكاتب الرد على السؤال بحركة من يديه ..
ـ ولماذا .. كل الفنادق مشغولة هكذا ..
ـ الكرة .. يا سيدتى هى السبب ولن تجدى فى القاهرة كلها غرفة واحدة خالية ..
ـ لى ساعة وأنا ألف وأدور دون نتيجة .. يكاد يغمى علىّ من التعب ..
وكان صوتها مؤثرا .. ويقطر بالألم والعذاب ..
فنظر شفيق إلى السيدة وقال لكاتب الفندق ..
ـ تسمح .. تعطى غرفتى للهانم ..
ـ وحضرتك ..؟
ـ سأنام فى أى مكان .. فى الطرقة .. أو حتى هنا إلى الصباح ..
ورفضت السيدة أولا ولكن بعد الحاح شديد من الشاب ومن كاتب الفندق نفسه قبلت أن تحتل غرفة الشاب ..
وصعدت إليها وهى فى أشد حالات الاعياء ..
كانت إلهام منذ خرجت من بيتها ووجدت نفسها فى الطريق وهى تعيش فى دوامة رهيبة .. ولم تكن تدرى إلى أين تسوقها قدماها وكيف تقضى أول ليلة لها منذ تزوجت خارج بيتها .. وكانت وجهتها المحطة .. لتركب القطار إلى الإسكندرية وتنزل ضيفة على قريبتها " روحية " حتى تتدبر أمرها ..
فلما فتحت حقيبة يدها وجدت فيها أربعين قرشا فقط .. فحزنت ودارت بها الدنيا .. وتذكرت أن الغضب أعماها عن أخذ نقودها من المنزل وأخذ حليها .. تركت هذا كله وخرجت غاضبة لا ترى أبعد من أنفها .. لقد احتملت كثيرا وتعذبت ومزق العذاب أعصابها ..
وعندما وجدت نفسها فى ميدان المحطة دارت فيه مرة ومرات ووجدت " أجزاخانة " على الناصية فدخلتها وابتاعت زجاجة صغيرة بقروش قليلة ومشت فى شارع كلوت بك .. وكانت وهى تركب الترام وتسير فيه من قبل .. تقرأ .. كلمة فندق فى أكثر من موضع .. 
واستقرت المعرفة فى عقلها الباطن ثم طغت عندما وجدت الباعث لتحريكها ..
وكانت الهام رشيقة القوام جميلة التقاطيع شديدة الحساسية تعيش على حساب أعصابها ..
ومنذ دخلت الغرفة فى الفندق وهى جامدة الملامح .. وظلت ساعة زمنية وهى تشخص إلى ما حولها سادرة البصر شاردة .. وكانت ممتقعة اللون متهالكة ..
وكان الحزن فى الواقع قد قطع نياط قلبها ومزق روحها .. وكانت هذه هى المرة الأولى التى يفلت فيها الزمام تماما وتصبح عاجزة عن ضبط انفعالها وغضبها ..
وكانت وهى تضع ملابسها فى الحقيبة الصغيرة التى حملتها إلى الفندق .. فى حالة ذهول مطلق .. فلم تضع إلا الأشياء التى أمامها وتركت ماهى فى حاجة إليه فعلا .. النقود .. والحلى .. والخاتم الذى أهدته إليها المرحومة والدتها وهو عندها أعز شىء فى الوجود .. تركت هذا كله .. وركبت الترام .. وهى ذاهلة عن نظرات الناس إليها .. فقد كانت مشوشة الشعر مضطربة .. وخرجت دون أن تتزين ولبست الفستان الذى كانت ترتديه فى البيت ..
استرجعت فى برهة قصيرة وهى جالسة فى غرفة الفندق كل ما حدث لها هناك .. فى البيت وأخذت بالتدريج تحس بوجودها .. فى الفندق .. وفى مكان لا تعرف عنه أى شىء على الاطلاق ..
وأحست بالخوف الغريزى الذى جعلها تظل بملابسها جالسة على السرير .. وفاتحة عينيها جدا ومنتبهة بكل حواسها إلى ما حولها وأحست بالصمت .. كان بعض الزوار يصيحون ويصخبون ثم خيم السكون وأحست بالهدوء ونامت فى طرقات الفندق القديم الذى خلا من ضجيجه .. وتجاوزت الساعة نصف الليل وكانت الليلة باردة فى أبريل شهر الربيع .. وكان الربيع انقلب إلى شتاء بارد .. وبرغم البرودة التى أحست بها الهام فإنها لم تفكر فى أن تغطى جسمها .. وظلت لابسة حذاءها وهى مسترخية على جنبها ..
وتحركت من فوق السرير واستوت واقفة ..
وبدا ثوبها الرمادى منسجما على جسدها وكانت عيناها برغم أنهما مقرحتان من البكاء تبرقان .. وكان كل ماعانته فى الساعات الأخيرة من ألم لم ينل بعد من ملاحة خديها ..
وكانت هناك مرآة صغيرة فوق طاولة فى الغرفة .. فنظرت فيها إلى وجهها .. ورأت أجفانها المتورمة واحمرار عينيها ..
وكان أنفها الصغير محمرا جدا وخطوط خديها يرف عليها شحوب أكسبها لونا شديدا الوقع على النفس .. وسوت الشعر الغزير الشديد السواد بيديها .. ونظرت إلى الغرفة فلم تجد فيها ماء ولم تكن تحب أن تطلب أحدا من خدم الفندق فى الليل .. وأحست برغبتها فى أن تذهب إلى دورة المياة .. ولكن رأت أن تؤجل ذلك إلى أخريات الليل حتى ينام كل النزلاء .. إذ كانت تشعر بالخجل ..
وجلست على السرير ..
ولاحظت أن جلستها عرت ساقيها فضمتهما وردت الثوب عليها مع أنه لم يكن فى الغرفة سواها ..
وعندما خفت الحركة فى الفندق .. أخذت تحس بالحركة فى الطريق .. وكانت .. العربات القديمة المتهالكة تجلجل عجلاتها من حين إلى حين .. وبعض المتاجر قد أخذت تنزل أبوابها ..
وكانت تسمع صياحا يشبه صياح المنادى على العربات بعد حفلات السمر .. ثم انقطع الصوت .. وتركت السرير إلى النافذة ونظرت إلى الطريق لم تقع عينها فى الشارع الذى رأته منذ ساعات يتحرك فيه حشد من الناس على جندى واحد ..
ولما نظرت من النافذة وتداعت فى مخيلتها الصور ورأت الرجال يتحركون فى الطريق تذكرت الرجل الذى أعطاها غرفته .. وحدثتها نفسها .. أنه ربما قبل هذا لغرض فى نفسه ربما اقتحم عليها الغرفة فى الليل .. وليس للباب مفتاح .. بحثت عن مفتاح للباب فى الأدراج فلم تجد ..
ومرت عليها ساعات رهيبة من العذاب .. ولكن ما يضيرها ولماذا تعذب نفسها بهذه الخواطر السوداء .. وهى ستستريح إلى الأبد .. بعد ساعات قليلة ..
وستنام على هذا السرير النوم الذى لا حلم فيه ..
وألقت أذنيها إلى الخارج وتسمعت فأحست بالهدوء المطلق .. وتيقنت من استغراق النزلاء فى النوم .. ففتحت الباب بحذر شديد واتجهت إلى دورة المياة .. وكان الخادم قد عرفها من قبل مكانها .. وعادت إلى غرفتها .. وهى تشعر بعد أن غسلت عينيها ويديها أنها أهدأ بالا .. ويمكن أن تؤجل الأمر إلى الصباح ولكنها رأت أن التأجيل يؤذى أعصابها وما سيحدث متعذرا واللعنة حلت ..
وأمسكت بحقيبة يدها وفتحتها لتخرج منها الزجاجة الصغيرة فلم تجدها .. وجنت ثم تصورت أنها أخرجتها ووضعتها على الطاولة أو فى درج من الأدراج وبحثت فى كل مكان فلم تجد شيئا ..
وجلست أخيرا على السرير كما كانت ساكنة .. ثم أطلقت سيل عبراتها ..
وأخذها ما يشبه النعاس أو ما يشبه الغيبوبة واستفاقت على نقر خفيف على الباب وعندمت نهضت وفتحته وجدت الشاب الذى أعطاها غرفته على العتبة وكان الصباح قد أشرق ..
وقال لها فى رقة :
ـ صباح الخير .. هل تسمحين بحقيبتى لآخذ منها المنشفة ..
ـ هل تركت حقيبتك هنا ..؟
ـ أجل ..
ـ وكيف نمت من غير بيجامة ..؟
ـ لم أنم اطلاقا .. كان علىّ أن أسهر إلى الصباح ..
ودخل الغرفة وهو يقول هذا .. فظلت إلهام فى مكانها .. وكانت توليه ظهرها .. ووجدت نفسها تسأله :
ـ ولماذا سهرت إلى الصباح .. ولم ترسل من يأخذ الحقيبة ..؟
ـ وجدت من اللياقة ألا يدخل عليك أحد فى الليل كائنا من كان .. وسهرت مع ثلاثة من القرويين .. فرغوا من بيع مركب محملة بالعدس .. فى ساحل الغلال وجاءوا إلى الفندق وجيوبهم ممتلئة بالمال ..
وكنت أفكر فى طريقة تنقل المال بسهولة من جيوبهم إلى جيبى ..
وابتسمت إلهام وسألته :
ـ كيف ..؟
ـ فكرت فى مائة طريقة وطريقة .. وكل طريقة سهلة ومضمونة العواقب .. ولكن تركتهم أخيرا .. اكراما لك ..
ـ اكراما لى .. وما شأنى أنا ..؟
واستدارت السيدة نصف دورة لتنظر إليه ..
ـ لأنك كنت نائمة فى هذه الغرفة ..
والواقع أن هذا هو ما حدث .. وما شعرت به بالفعل .. وقد لايوجد تعليل معقول لهذا كما لا يوجد تعليل معقول لكثير من الأشياء التى تحدث فى الحياة ..
وكان شفيق قد تناول حقيبته وخرج بها من الغرفة .. وعاد إليها بعد أن غسل وجهه .. وقال :
ـ والآن هيا ..
ـ إلى أين ..؟
ـ إلى بيتك ..
ـ أبدا .. أبدا .. أنا لا أعود لمتوحش ..
ـ أنت لا تعرفين الوحش الحقيقى .. أرجوك .. يجب أن تخرجى من هنا .. قبل أن يراك النزلاء ويتصوروا أشياء كثيرة ..
وما زال بها .. حتى خرج معها إلى الشارع وظل يحادثها حتى اطمأنت لحديثه .. وسألها :
ـ هل عندكم تليفون ..؟
ـ أجل ..
ـ سنذهب إلى بوفيه المحطة .. وكلمى زوجك من هناك ..
ـ أبدا ..
ـ كلمى الخادمة .. وقولى لها أنك قضيت الليل .. ساهرة فى بوفيه المحطة .. ولا تقولى لأحد قط .. أنك نمت فى فندق .. فما من إنسان يصدق أنك قضيت الليل وحدك ..
ونظرت إليه ملتاعة ..
وضحك .. فضحكت ..
ودخلا المحطة .. وجعلها تتحدث فى التليفون ..
وأجلسها وحدها فى البوفيه وظل فى فناء المحطة الداخلى يراقبها من بعيد .. حتى جاء إليها رجل مسرعا وأخذها وذهب .. وعندما خرج شفيق من باب المحطة كان ندى الصباح يرطب قلبه .. وابتسم وهو يتبع الظلين حتى تواريا ..
وبدا له أن ما حدث نهاية طيبة لمغامراته ..
وفى ركن من الطريق أخرج زجاجة صغيرة من جيبه وطوح بها بكل قوته ..
====================== 
نشرت القصة فى م . الجيل بالعدد 490 بتاريخ 15/5/1961 وأعيد نشرها فى كتاب " زوجة الصياد " سنة 1961
========================

    




















فى القفص






     كان الصباح غائما مقرورا والريح تهب بشدة من ناحية البحر .. وكانت المقاهى والمطاعم الصغيرة ومحلات الحلوى التى تقع فى الميدان الواسع قليلة الرواد فى تلك الساعة من النهار لتقلب الجو وعصف الريح ..
     وبرغم الرياح الهوج والإنذار بالمطر كان باعة الصحف يتحركون فى الميدان كعادتهم فى كل صباح ويصيحون بآخر تطورات الحرب فى الجزائر وآخر رحلة لرجل الفضاء ..
     وكان ترام الرمل يفرغ فى كل دقيقتين حشدا مختلطا من الرجال والنساء الذاهبين إلى أعمالهم فيمتلىء بهم الميدان لحظات .. ثم يفرغ منهم ويستقبل غيرهم ..
     وخرج ثلاثة من الركاب من خط « باكوس » وداروا متمهلين فى الميدان.. كأنهم يبحثون عن ملجأ يحميهم من العواصف ثم جلسوا فى داخل محل التريانون يستدفئون بشرب الشاى .. ويرقبون من خلال الزجاج فعل الرياح والعابرين من خلال النفق ..
      وكانت الريح تذوم فى الخارج وهى تحمل فى دواماتها كل ما تستطيع حمله من الأوراق والغبار ولم تكن مثل هذه العواصف قد هبت على مدينة الإسكندرية منذ عشرين سنة .. فثار البحر وزمجر .. ووقفت السفن فى مدخل الميناء وتعطلت الحركة فى داخل المدينة ..
     وكانت مثل هذه العاصفة قد هبت فى يوم الأربعاء الماضى على شاب من التجار وهو مسافر من الميناء إلى جنوا .. فضبط وهو يهرب ذهبا وعملات أجنبية وقبض عليه متلبسا بجرمة وأودع السجن رهن التحقيق ..
     وعلمت زوجته الخبر المفزع فجاءت من القاهرة على عجل ومعها طفلها الوحيد عادل البالغ من العمر خمس سنوات وشاب قريب زوجها يدعى شوقى الذى أعلمها بالخبر وأبدى استعداده لمرافقتها إلى الإسكندرية ..
     وركبوا ديزل الساعة السابعة صباحا ونزلوا فى سيدى جابر .. لأن شوقى كان يود أن يمر على صديق له يقيم فى الإبراهيمية ليساعده على أخذ التصريح من النيابة لزيارة السجين ..
     ولما لم يجدوا الصديق فى بيته ... واصلوا الطريق بالترام إلى محطة الرمل فى جو عاصف .. واختاروا التريانون ليجلسوا فيه حتى يتدبر شوقى الأمر ..
     وكان عبد الفتاح زوج فوزية شابا ذكيا ولامعا .. ويشتغل فى شركة من شركات السيارات وكان رفاقه ينظرون إليه كشاب له مستقبل .. واتسعت آماله وزادت مطامعه .. بعد أن تعلم من وجوده فى الشركة أشياء كثيرة فاستقل بنفسه وأصبح يتاجر فى السيارات والثلاجات .. ثم اتخذ من المحل ستارا لتهريب الأموال إلى الخارج لحساب الآخرين .. وفى إحدى محاولاته الجريئة قبض عليه متلبسا ..
     وكانت فوزية تود أن تزوره فى هذا الصباح فى السجن وتعود إلى بيتها فى القاهرة فى اليوم نفسه .. ولذلك رفضت أن تذهب إلى الشقة التى يستأجرها شوقى فى الإسكندرية .. وتحت الحاحها على أن تعود إلى القاهرة فى اليوم نفسه .. رأى شوقى أن تجلس فى التريانون ومعها طفلها ويذهب هو لينجز إجراءات الزيارة ..
     وتركها شوقى وذهب لسبيله وجلست فوزية ترقب الطريق من خلال الزجاج .. والريح تزف فى دوامات وتدفع أمامها كل شىء ..
     ولأول مرة تجلس وحدها فى مكان عام وشعرت برجفة .. كان المكان خاليا تقريبا إلا من قليل من الرواد جلسوا متناثرين بجانب المناضد وعليها مفارشها الصفراء ..
     وكانت العواصف فى الخارج تزار .. والرياح تدفع العابرين إلى الإسراع والسير تحت البواكى وجدران البيوت .. وتلاعب ملابس النساء فتجعلهن يضطربن فى سيرهن ويتلفتن إلى الوراء .. كأنهن يتأكدن من أن أحدا لا يراهن على هذه الصورة المثيرة أو يطلبن من الرجال العون ..
     ولقد هبت هذه العاصفة على بيت فوزية منذ ثلاثة أيام .. وحملتها على متن الريح ودارت بها .. ومزقت كيانها .. وسترها وتركتها عارية أمام الناس .. فأحنت رأسها خجلا وتوارت ..
     وعند ما طلبت العون فى مصيبتها .. لم تجد أحدا على الإطلاق يعينها غير شوقى ..
     وجاءها شوقى فى الساعة الواحدة يحمل لها التصريح بالزيارة ولكن كان الموعد محددا فى صباح اليوم التالى فاختارت ماذا تفعل .. ولم يكن من سبيل غير المبيت فى الإسكندرية ..
     وخرجوا من المقهى ليتغدوا فى أحد المطاعم العامة .. وعلى مائدة الغداء حدثها شوقى عن ضرورة الراحة فى شقته ورضيت لأنها كانت متعبة جدا وركبوا الترام إلى هناك ..
     وكان شوقى مستأجرا شقة صغيرة من ثلاث غرف فى اسبورتنج قريبا من كليوباترا ويتخذها مصيفا ومقاما له عند ما تضطره ظروف عمله إلى التوجه إلى الإسكندرية ..
      وكانت فوزية تدخلها لأول مرة فعلى الرغم من قرابة شوقى لزوجها ولكنه كان قليل الاختلاط بهم فى القاهرة .. لأنه دائما مشغول بعمله .. وكانت فوزية إذا صيفت تذهب مع زوجها وأبنها إلى رأس البر .. فلم يكن هناك مجال لترى شقة شوقى إلا فى هذه المرة .. وكانت لطيفة وسرت بها لأنها تقع على البحر مباشرة وفى عمارة حديثة ..
     وخصص شوقى لها ولأبنها الغرفة الوحيدة التى تطل على البحر ولأنها كانت متعبة .. ومحطمة الأعصاب .. وتبكى باستمرار .. تركها تستريح .. ونزل هو إلى السوق يتسوق الأشياء اللازمة للبيت والعشاء ..
     ولكن فوزية ظلت جبيسة فى غرفتها ولم تخرج منها ولم تتناول العشاء . وكان يعرف أنها تجتر أحزانها فتركها تستريح دون أن يزعجها إلى الصباح ..
     وفى الصباح أتجهوا ثلاثتهم لزيارة زوجها .. وحوالى الساعة التاسعة دخل زوجها القفص ورأته شاحبا .. وأن بدا حليق الذقن وفى لباسه العادى .. ونظراته الثابته .. ولما لمح ابنه الصغير إنتفض كأنما لدغته عقرب وشحب وجهه شحوبا شديدا وبقى جامدا فى مكانه .. ثم مد يده للغلام فقربته أمه منه ..
     وسألها :
     ـ متى جئتم .. ؟
     ـ الصبح .. فى أول قطار ..
     ـ هذا أحسن .. أين كنتم تنامون فى الإسكندرية ..
     ثم نظر لشوقى .. وكان قد سلم وابتعد يتحدث مع أحد العساكر ..
     ـ وشوقى .. جاء معكم ..
     ـ لقيناه فى المحطة ..
     ـ بعد الزيارة خذى عادل وارجعى « مصر » على طول .. اطمئنى ليس على شىء ..
     ـ حاضر ..
     كان يخشى عليها من وجودها وحدها فى الإسكندرية ..
     وكان الحارس .. وكل من يقع نظره عليها يحملق فيها فى ذهول .. كان جمالها وأناقتها فى ملبسها ملفتين للأنظار ..
     حتى أن السجان نفسه المكلف بمراقبة الزيارة خجل من أن يقول لها أن ميعاد الزيارة قد أنتهى .. ولم يجرؤ على أن يبعد زوجها عنها ..
     وأخيرا دخل زوجها وابتلعه ظلام السجن .. ووجدت نفسها وحيدة وسرت فى أوصالها رعدة وأخذت تنشج .. ثم اعتمدت على ذراع شوقى وبارحت المكان وفى عينيها الدموع الحارة .. وكان طفلها قد تعلق بثوبها فى ضراعة ولكنها لم تكن تحس بوجوده لأول مرة أظلمت فى وجهها الدنيا وأحست بالظلام يتسرب إلى نفسها ..
     لقد كانت تفرحها البهجة التى عاشت فيها من قبل المال .. والسيارة الخاصة والسكن على النيل فى عمارة ضخمة .. وكان طوع بنانها كل ما تطلبه وتحن إليه كانت هذه الأشياء تفرحها من قبل .. ولكنها رأتها الآن محوطة بالأسلاك الشائكة والحديد .. وأحست بالضياع ..
     أخذت تتراجع إلى الخارج .. وهى شاحبة الوجه .. وأحس شوقى بلوعتها فأركبها « تاكسيا » .. وفى « التاكسى » أطلقت العنان لعبراتها .. وكان ابنها بجوارها ذليلا فضمته إليها ..
     ولما رأت السيارة تنطلق فى طريق الكورنيش سألته :
     ـ إلى أين .. ؟
     ـ سنروح البيت ..
     ـ لا .. أنا عاوزه أسافر .. على طول ..
     ـ طبعا .. سنسافر .. ولكن بعد أن تستريحى قليلا .. تعبت وأنا أشفق عليك من هذا العذاب .. وسأرى المحامى .. ليقدم له معارضة فى وقت قريب ..
     ـ ضرورى نأخذ قطر خمسة .. خوفا من أن ينام عادل منا فى السكة ..
     ـ سأعمل حسابى على ذلك ..
     وظلت فوزية شاردة الذهن ..
     واستفاقت لنفسها عند ما وقفت السيارة أمام العمارة فى حى أسبورتنج وصعدوا إلى الدور السابع ..
     واستراحت فوزية بعد أن وجدت نفسها بعيدا عن العيون فى داخل الشقة فقد أراحها البكاء الطويل وانزاحت عن نفسها الغمة التى لازمتها بعد رؤيتها لزوجها فى القفص ودارت ببصرها لتتفقد الشقة بكل تفاصيلها فلم ترها الليلة الماضية إلا فى نظرة عابرة ..
     كانت الشقة جميلة الأثاث .. أنيقة للغاية وكان جو المكان يوحى بالشاعرية .. وكان من الجلى أن أنامل سيدة ترتب المكان وترعاه ..
     وانطلق الغلام يعدو فى الشقة وهو غير شاعر بما يجرى فى الدنيا ..
     وظلت فوزية تفحص المكان بعينيها وشعرت للمرة الثانية وهى جالسة مع شوقى والباب مغلق بالخجل .. وأحست بالحاجة لأن تذهب إلى دورة المياه ولكنها خجلت من أن تدخل أمامه ..
     وسألته وهى تشعر بالحرج :
     ـ منذ متى استأجرت هذه الشقة ..؟
     ـ منذ ثلاث سنوات ..
     ـ جميلة ..
     ـ أعجبتك .. ؟
     ـ جدا .. وبتصيف فيها .. ؟
     ـ بالطبع وأحيانا آتى فى الشتاء .. الإسكندرية .. جميلة فى الشتاء وهادئة .. وهذه الأيام العاصفة تعتبر شاذة ..
     ـ أننا نصيف فى رأس البر ..
     ـ حدثنى بذلك عبد الفتاح ..
     ـ والصيف المقبل .. لا ندرى أين نكون .. لا نعرف مصيرنا ..
     ـ فى رأس البر بإذن اللّه كما اعتدتم .. وسأتركك ساعة لأذهب إلى المحامى ..
     ـ أذهب معك ..
     ـ لا داعى لذلك أستريحى أنت وعادل .. ولكن لا تقلقى سأنتظر المحامى فى مكتبه إلى أن يحضر إذ ربما عنده اليوم جلسة .. فى المحكمة ..
     ـ إننا فى انتظارك .. إلى أن ترجع بالسلامة وخذ مقدم الأتعاب ..
     وفتحت محفظتها ...
     فنظر إليها .. وهى تخرج ورقة من ذات عشرة الجنيهات ..
     ـ خلى النقود معك الآن سأعطيه .. وأحاسبك بعد ذلك .. وفى عودتى سأحمل معى طعام الغداء .. فاستريحى ..
     وخرج وأغلق الباب ..
*   *   *
     كانت فوزية تعرف أن الوقت يمر فى تثاقل والنهار على قصره سيطول فبماذا تشغل نفسها حتى يعود شوقى .. كان وجود عادل يسليها فى بيتها ولكن هنا .. كان الأمر على العكس .. والساعات بطيئة .. وخرجت تدور فى الشقة وتخرج من غرفة إلى أخرى .. وتقلب فى المجلات والصور ..
     لم تكن الشقة فى أناقتها شقة رجل عازب .. أو شخص يتخذها مصيفا .. بل كانت شقة عروس وعفش عروس .. وأنامل الأنثى بادية فى كل مكان ..
     ربما كان شوقى متزوجا وهى لا تدرى .. أو متخذا لنفسه عشيقة .. أو يأتى فى كل ليلة بامرأة كما يفعل غيره .. وأخذت هذه الخواطر تدور فى رأسها .. وعجبت من كونها تفكر فى مثل هذه الأشياء وتشغل نفسها بها وهى على هذه الحالة من التعاسة ..
     ووجدت « راديو » صغيرا فى حجرة النوم فأدارته .. وانساب النغم هادئا .. وكان عادل يروح ويجىء وهو فى بهجة منطلقة .. واستوثقت أمه من علو الشرفة .. واطمأنت وتركته يمرح على هواه ..
     وكان الجو شديد البرودة فى داخل الشقة مثله فى الخارج والبحر هائجا والموج يصفق وكانت هناك ريح غريبة قد بدأت تهب وشاهدت بعض البواخر الكبيرة .. تسير من بعيد فى عرض البحر وهى تصارع الأمواج وعلى مدى البصر رأت السلسلة .. وبعض الزوارق الصغيرة طاوية أشرعتها وراسية هناك ..
     وأخذت تتابع بعينها تحركات البواخر فى عرض البحر .. وكان سباق اسبورتنج وراءها وقمم البيوت وقبابها وبدت المدينة يخيم عليها السحاب ويلفها فى شملته ..
*   *   *
     وعاد شوقى بعد الساعة الثانية .. يحمل طعام الغداء ...
وأعدت فوزية المائدة وسألته على الطعام :
     ـ هل قابلت المحامى .. ؟
     ـ لم يحضر من المحكمة حتى الساعة وقد تركت له ورقة لأعود إليه فى الساعة الخامسة مساء ..
     ـ سأترك لك الموضوع وأسافر ..
     ـ إبقى إلى الغد .. وسنسافر معا .. كما جئنا معا .. أرجوك ..
     ـ لقد وعدت عبد الفتاح بالسفر اليوم .. ولابد من السفر ..
     ـ إنى أشفق عليك من العودة وحدك .. وسأنهى الموضوع الليلة وربما لحقنا قطر سبعة وربع ..
     ولم تعقب فوزية ووقف الحديث عن السفر عند هذا الحد ..
*   *   *
     وبعد الغداء .. جلسوا يتحدثون .. ونام الغلام .. وأحست الأم لنومه بالراحة ..
     وخرج شوقى .. وذهب إلى المحامى .. وعاد فى الساعة السادسة مساء وحكى لها ما جرى مع المحامى وكيف طمأنه وسيتخذ الإجراءات للمعارضة فى أمر الحبس من الغد ..
     وظل شوقى يحادث فوزية ويطمئنها على حال زوجها ويحبب لها البعد عن جو القاهرة فى ذلك الوقت حتى رضيت أن تقضى الليل فى الإسكندرية ..
     ولاحظ عليها قلقها وحزنها وكان يود أن يشغلها بأى شىء فاقترح عليها أن تقوم بإعداد العشاء ولو بالإكتفاء بطبق واحد .. ولكنها اعتذرت بكون أعصابها محطمة ولا تحس بالقوة على أن تقف أمام النار ..
     وأخيرا قررا النزول والتعشى فى الخارج ..
     ولما رجعوا ثلاثتهم كانت الساعة قد اقتربت من التاسعة ولم تكن فوزية تحس بالنوم فقد كانت أعصابها لا تزال متوترة فأبدت له رغبتها فى أن تجلس فى أى مكان قريبا من البحر .. لم تكن قد زارت الإسكندرية فى الشتاء وكانت ريح البحر ترطب وجنتيها .. وتغسل روحها .. كانت تود أن تصفو روحها القلقة .. وأن يداعب وجهها الهواء البارد ..
* * *
     ولم يجد أى كازينو على البحر يعمل فى الشتاء .. ووجدا مكانا صغيرا .. فجلسوا ثلاثتهم وراء النوافذ الزجاجية محتمين من الريح .. وشربا الشاى وطلبا حلوى لعادل الذى أخذ النوم يداعب جفنيه ..
     وسألت فوزية بصوت خافت .. ونغمة حزينة :
     ـ هل شرحت الموضوع للمحامى .. ؟
     ـ أجل .. بكل تفاصيله ..
     ـ وطمأنك .. ؟
     ـ كل الاطمئنان ..
     ـ أعتقد العكس .. وأعتقد أن عبد الفتاح لن يخرج من هذا القفص .. لقد تمزقت حياتنا .. شعرت بالضياع ..
      واخضلت عيناها بالدمع .. وخجلت من كونها تبكى فى مكان عام .. وابتلعت عبراتها .. وظل هو يواسيها ويخفف الألم عن نفسها بكل كلام ..
     وقالت من خلال عبراتها :
     ـ إن الإنسان لا يحس بالضياع إلابعد أن يضيع فعلا ... والطمع يغشى عينيه .. فيحسب أن المال هو كل شىء فى الحياة .. منه يشترى السعادة ويتحدى القانون .. ثم يدرك بعد فوات الأوان .. أنه كان مخدوعا .. وأنه عاش فى ضلال ..
     ـ يسرنى أن أسمع منك هذا الكلام .. الآن .. ؟
     ـ هل تحسبنى كنت أشجعه على هذه الحياة .. ؟
     ـ أبدا ما فكرت فى هذا ..
     ـ لقد كان يصرف المال على مباذله وشهواته الخاصة .. ويضيع كل ما يجمعه يوما بيوم .. والمال الحرام لا يعيش ... وكانت رفاهيتنا مظهرية .. بحتة وفى أعماقنا يعيش العذاب ..
     ـ أعرف أنك تعذبت ..
     وغلبها التأثر فسالت عبراتها وأخرجت منديلها ..
     وقال يواسيها :
     ـ إن ما حدث مقدر .. وما ذنبك .. ؟
     ـ كان يجب على أن أسأله من أين يأتى بهذا المال .. ولكننى تركته حتى جرفنا الطوفان .. فى لحظة .. تعرينا .. وكيف أواجه الناس .. وكيف يعيش الغلام المسكين وأبوه فى السجن ..
     ـ فكرى فى رحمة اللّه ..
     ـ إن اللّه لا يرحم من لا يتقيه .. ولا يخشاه ..
     ـ لا داعى لكل هذا اليأس ..
     ونظرت إلى ابنها فوجدته ينام على كرسيه ..
     ـ أصح يا حبيبى ..
     وتناولت يده واتخذوا الطريق إلى البيت ..
*   *   *
     وعندما دخلوا الشقة وأغلق هو الباب بالمفتاح ووضعت هى الغلام فى الفراش .. أحست بالراحة وبأن حائطا سميكا قد فصلها عن الناس الذين كانت تخشاهم ولا تحب أن تواجههم بكل تعاستها .. وكل لوعتها وكل عريها .. لقد تعرت أمامهم .. عراها زوجها ومزق ثيابها ومزق حياتها وجعلها تقف عارية أمام الخلق لا يسترها أى شىء على الاطلاق جعلها تواجه العار وحدها .. إنها تتوارى الساعة من العار .. وراء الجدران السميكة ..
     وظلت ساهرة فى الصالة وشوقى يحادثها فى مختلف الشئون حتى يسرى عن نفسها ..
     وكانت تسمع من حين إلى حين صوت ابنها الذى تركته فى غرفة النوم وحده ..
     ـ ماما ..
     فنهضت إليه مسرعة .. فتجده فاتحا عينية .. كانت تحسب بعد ان رأته ينام على كرسى المقهى .. انه سينعس بمجرد وضعه فى الفراش .. ولكنه كان يغفو ثم يصحو .. على غير عادة .. ولعل فى رأسه الصغير شيئا لم تعرفه عندما وجد نفسه فى بيت غير بيته .. وظلت بجانبه .. وكلما بارحت الغرفة ناداها .. فاضطرت أن ترد الباب .. وترقد بجواره متيقظة ونائمة حتى أشرق نور الصباح ..
*   *   *
     وجلسا إلى المائدة يشربان الشاى فى الصباح .. وكان الغلام قد بدأ ينام .. شربا الشاى فى تمهل وخاضا فى فنون الأحاديث .. ولما طرقا موضوع السفر .. كانت قد أقتنعت تماما بأن تبقى يومين أو ثلاثة فى الإسكندرية .. بعيدا عن معارفها وجيرانها فى القاهرة .. حتى يتحدد ميعاد المعارضة ..
    وخرج شوقى يتسوق الطعام من السوق ثم ذهب إلى مكتب المحامى وبقيت فوزية فى البيت ومضى الصباح ثقيلا مملا والأفكار السوداء تنهش رأسها .. وظلت فى البيت إلى الساعة الحادية عشرة من الصباح لم تر موجبا للخروج ثم شغلت بإعداد الطعام وطلب أنبوبة « البوتاجاز » .. وتشغيل المطبخ وشاعت الحركة فى الشقة المهجورة .. وكان الغلام ينزل إلى الأدوار الأرضية ويلعب فى مدخل العمارة مع الأولاد ثم يصعد مسرورا .. فقد وجد ما يؤنسه فى وحشته ..
واستراحت فوزية لوجودها منعزلة عن الناس وقريبة من البحر وكانت تسمع صوت الموج رعادا .. وكانت الشمس تطلع ثم تغيب وراء السحاب وبدا النهار أقل برودة من الأمس ..
     لما جاء شوقى وحدثها بأن المحامى بذل جهده لتكون المعارضة فى يوم السبت المقبل .. شكرته لتعبه ولاحظت أنه خارج لتوه من عند الحلاق وأنه يبدو على غاية من الأناقة .. وقد التمع شعره وتعطر .. وأخذت فوزية تنظر إليه وكأنها تراه أمامها لأول مرة .. بدا أنيق الهندام وأكثر رقة من زوجها وكان متقاربا معه فى السن والطول وفيه صفات أسرة زوجها ولهجتهم .. كان فى الرابعة والثلاثين من عمره أبيض طويلا مستدير الوجه وفى عينيه ذكاء مفرط .. وكان مثل زوجها يشتغل بالتجارة ولكنه لا يبذل كل جهده فيها ومع ذلك بدا لها موفقا غاية التوفيق فى أرباحه .. ولم تكن تعرف على اليقين الشىء الذى يجلب له المال .. وكان ميسورا وقادرا على الزواج .. ولكنه حتى هذه السن لم يتزوج ..
     ولم يكن فى فترة وجودهم فى القاهرة يزورهم فى بيتهم إلا فى النادر كل ثلاثة شهور مرة .. وكانت تعرف أنه قريب لزوجها ولكنها لا تعرف مبلغ القرابة على التحديد .. وأصبح بعد أن سافر أخو زوجها أحمد ليعمل فى أحدى السفارات فى الخارج هو الشخص الوحيد الذى تراه من أقاربائه ..
     ومنذ قبض على زوجها وهى تشعر بأنه جزع للخبر مثلها .. وهو فى الإسكندرية طوع بنائها .. ويقوم بكل ما تطلبه .. وقد ذهب للمحامى عدة مرات .. وأراحها فى بيته .. ويصرف على الطعام والشراب .. ولم يكن فى محفظتها هى غير عشرة جنيهات وبعض الحلى حملتها معها لتبيعها وتصرف منها على زوجها المحبوس .. ولم يكن فى بيتهم أى وفر من المال ..
      كان زوجها يكسب كثيرا ولكنه كان يقامر .. ويصرف كثيرا .. وكانت تعرف أنه يصرف على النساء .. ويصرف عليهن بجنون وأن النساء هن اللواتى يدفعنه إلى كل هذه الأمور الشائنة وظلت صابرة وكانت تتصور أنه سيعود إلى عقله ويعود إليها خصوصا بعد أن كبر عادل .. ولكن المقادير كانت أسرع من تقديرها وها هو الآن فى داخل القفص .. وقد تركها فى الخارج للمقادير وريح الشتاء ..
     وعندما وضعت المائدة .. لاحظت أن شوقى يجلس فى كرسيه فى الصدر وفى مواجهتها تماما .. كما كان يفعل زوجها فى بيتهم فى القاهرة ..
     وتناولت طعامها وهى تلاحظه بعينيها يأكل .. وكان طفلها عادل كعادته.. مدللا .. قلقا وقد أتعبها وهى تطعمه وزاد من همومها ..
*   *   *
     وفى العصر ذهبوا إلى محطة الرمل ثم عادوا إلى البيت .. بعد الغروب وسألته .. وهى تخلع معطفها :
     ـ هل ستبقى فى الإسكندرية إلى يوم السبت .. ؟
     ـ نذهب أو نبقى كما تحبين .. أنا طوع أمرك ..
     ـ ألا نسافر حتى فى الصحراوية .. ونعود يوم الجمعة ..
     ـ أنا عند رأيك ..
     عاد إليها القلق
     ورآها بعد أن خلعت المعطف وبقيت فى الثوب الوحيد الذى سافرت به فلم يكن معها غير حقيبة يدها الصغيرة .. فإن الثوب أسود داكن .. ولا يدرى لم اختارته بهذا اللون هل هو مقدمة لنعى زوجها أو دليل على حزنها على مصيره .. وكان محبوك النسج على قامتها الفارعة ويبرز تقاطيع جسمها.. وتكوين صدرها .. ورقة خصرها .. واستدارة فخذيها ..
     وكانت بيضاء بياضا شفافا ملتمعا .. وعلى شفتيها الخمراوين يجرى ريقها مثل الشهد .. ويشتم من بشرتها .. مثل رائحة العنبر ..
     وكان الثوب الوحيد قد تكسر من طول لبسها له ومكوثها به فقد كانت لا تخلعه الا فى الظلام .. عندما تدخل فى الفراش ..
     ومع وجودها فى صحبة شوقى وملازمتها له أكثر من يوم ولكنها كانت ترتبك لمجرد إحساسها بأن عينيه تتبعانها وهى داخلة إلى دورة المياه .. ولاحظ أرتباكها فكان يذهب بعيدا عن الصالة كلية حتى لا يربكها ..
     ولم يكن قد ضايقها بأية حركة أو أى عمل تشتم منه أنه ينظر إليها نظرة الرجل إلى الأنثى .. كانت نظرته ساكنة مؤدبة .. وكان دائما على استعداد لأن يتحمل كل شىء فى سبيل راحتها .. فنام على ( كنبة ) فى غرفة بعيدة عنها وترك لها غرفة نومه بكل ما فيها من رياش واطمأنت تماما لصحبته ..
*   *   *
      وفى اليوم الثانى وبعد الغداء .. أغلق عليه باب الغرفة التى ينام فيها .. تركها فى حريتها مع طفلها .. وجمعت للطفل أشياء يلعب بها .. فى الصالة وجلست قريبة من النافذة من وراء الزجاج ملقية نظرها على الإسكندرية .. على السلسلة .. وعلى رءوس المنازل البيضاء الملتمعة كلما طلعت الشمس وكان الكورنيش فى نصف دائرة من رأس التين إلى المنتزه ..
     والبحر أزرق اللون بين هذين وقد بدا هادئ الصفحة وخف عراكه مع الريح ..
     لم تكن تسمع حركة السيارات فى الطريق ولا صوت أحد فى هذه الشقة العالية .. واسترخت أعصابها فى هذا الجو الهادئ .. كان الهدوء يؤثر على قلبها .. ويشعرها بالبهجة الحالمة وكانت تشعر فى مثل هذه الأوقات برغبتها فى أن تعانق أحدا لتشعره بسرورها ..
     وكان شعاع طويل من الشمس ينفذ من خلال زجاج النافذة ويرتمى على السجادة ونظرت إلى الشعاع وأحست بالرغبة فى أن تستدفىء فى هذا المكان .. فوضعت شيئا تحت رأسها .. وتمددت على السجادة ..
     وراحت فى غفوة لذيذة وأحست بالدفء ولم تشعر بنفسها .. إلا وهى ترى عينى شوقى ترقبانها .. وكان قد فتح باب غرفته فرآها فى رقدتها .. فوقف فى مكانه يتأملها فى سكون ولم يكن يود أن يقوم بأية حركة مخافة أن تصحو ولكنها صحت على حركة من ابنها ..
     ولما فتحت عينيها وجدت (شوقى) يرقبها باسما وكان الثوب قد انزاح عن ساقيها .. فنهضت سريعا ووجهها فى لون العناب ..
     ودخلت غرفتها .. وأخذ هو يداعب ابنها (عادل) .. ولما فرغت من زينتها كانت فى حالة من الانشراح شجعته على أن يقترح عليها أن يذهبوا إلى السينما فى حفلة الساعة السادسة .. فقبلت .. واختاروا سينما ريو .. وفى الطريق إليها اشترت بعض الملابس الداخلية لها وللغلام .. لأنها لم تكن تحمل غيارات أطلاقا ..
     ولما رجعوا إلى البيت .. تعشوا ودخل شوقى غرفته .. ولما أدركت أنه نام .. ذهبت إلى الحمام .. أخذت تغسل ملايسها الداخلية المتسخة وملابس الغلام .. ووجدت حبلا فى الشرفة .. فنشرت الملابس فيه ..
     وأغلقت الباب الزجاجى .. وشعرت بهدأة الليل ..
     وكان عادل نائما على الكنبة فى الصالة فحملته إلى الفراش .. وأغلقت النور لينام ..
     ولكن قبل أن تنام أحست بصوت الريح فى الخارج .. ثم صوت المطر .. واخذ المطر .. ينهمر بشدة .. فرأت أن تبعد الملابس التى نشرتها عن المطر .. وفتحت نافذة الشرفة على عجل فهبت الريح قوية فى وجهها وخبطت أبواب الشقة ..
     وعندما اقتربت من حبل الغسيل لتجمع الملابس المنشورة شعرت بأنها هى نفسها تكاد تطير فى الجو من قوة الريح .. وسقط شىء صغير من يدها وحملته الريح إلى جوف الليل وندت عنها صرخة .. وتراجعت مذعورة من قوة الريح فوجدت نفسها على صدر شوقى وضمها إليه يحميها من العواصف وأدخلها فى الصالة وأغلق زجاج الشرفة ..
     ولامس بشرتها وجسمه جسمها وشعر بمثل النار ..
     ودخلت شاحبة اللون ووجدت ابنها ( عادل ) يرقب المشهد من مكانه على السرير ..
*   *   *
     وعاد شوقى إلى غرفته وهو يحس بهزة عميقة وقسوة عارمة .. فقد لامس جسمه جسمها .. لعبت الريح .. دون غرض .. فأشعل الحادث الذى حدث دون تدبير فيه النار ..
     ولم ينم وظلت الريح تعصف طول الليل والمطر ينهمر وكان البحر هائجا كالغول وهما يسمعان صوته ..
     وشعرت بالخوف وكان همها أن تدثر الغلام وتدفئه حتى ينام .. ودخل عليها شوقى الغرفة لما أحس باشتداد البرد وفعل الريح ، يحمل لها بطانية أخرى فشكرته ووضعتها على الغلام .. وجلست على طرف الفراش وهى تنظر إلى عينيه ليذهب عنها .. ولكنه ظل واقفا فى مكانه .. كأنه بعد أن لامس جسمها واحتضنها عفوا .. أصبح له الحق فى أن يدخل عليها غرفتها .. ويبقى فيها ..
     وسألها عن الطفل ..
     ـ هل نام .. ؟
     فهزت رأسها نعم ..
     ـ وأنت هل تشعرين بالبرد .. ؟
     ـ أبدا ..
     ـ سأعمل لك ولنفسى فنجانين من الشاى ..
     وسرت لأنه يهتم بها حتى فى هذه الأوقات ويتحمل التعب فى سبيلها .. ولكنها لم تتركه وحده ونهضت وراءه إلى المطبخ ..
     وكان قد وضع الغلاية على النار .. وقف يرقب .. وأخرجت هى « الفناجين » ووضعتها على المائدة فى الصالة .. فذهب وراءها .. وجلسا يتحدثان فى همس خوفا من أن يصحوا الطفل واستغرقا فى الحديث .. حتى سمعا صوت الغلاية وهى تفور .. فجريا إلى المطبخ .. ومد يده قبلها فلسعته النار .. فألقى بالغلاية فى الحوض وتناولت فوزية يده وقد لسعته النار ..
     وبعد لحظة سمعت صوت الطفل ينادى .. فجرت إلى الطفل ..
     وفى اليوم التالى .. نسيت السفر إلى القاهرة .. أحست برغبتها فى أن تبقى فى الإسكندرية .. وظلت قلقة .. إلى الصباح ..
*   *   *
     وفى أول الليل دخلت .. صيدلية واشترت أقراصا منومة .. وكان الصيدلى فى أول الأمر يرفض أن يبيع لها هذه الأقراص من غير ( روشتة ) طبيب ولكن لما رأى وجهها الشاحب وشرحت له حالها ونفسها وأنها لم تذق النوم منذ أسبوع أعطاها الأقراص ..
*   *   *
     ومع كوب صغير من اللبن أعطت الطفل ثلاثة أقراص وهو فى الفراش دون أن يراها شوقى ..
     ثم رقدت بجوار ابنها فأحست ببرودة جسمه فذعرت .. ونظرت إلى عينيه وحركته .. فصرخت فى جنون ورعب ..
وأدركت أن الأقراص المنومة قد أنامت ابنها إلى الأبد ..
     وجاء شوقى على صرخاتها ولكنه لم يستطيع الأقتراب منها وهى تلطم خديها وتمزق ثوبها وشعرها .. فقد كانت فى حالة من فقد عقله تماما ..

===============================   
نشرت القصة فى مجلة آخر ساعة 18/4/1962 وأعيد نشرها فى كتاب " زوجة الصياد " وبمجموعة " قصص من الإسكندرية " من تقديم واعداد على عبد اللطيف و ليلى محمود البدوى ـ الناشر مكتبة مصر 2002
================================



































فهرس

زوجة الصياد                              2               
قطار الساعة 8                           13
الأفيال                                    20 
المفتش العام                              25
تيفود                                      28   
جريمة                                    32
الجياد الشهباء                            40        
دروس فى الفسفة                         52
الأحدب                                     56
وحوش                                     64
عابر سبيل                                  67
وجه الشمس                                80      
الأرقام الناطقة                               94
السكين                                      102
لجنة الشباك                                 109
القنطرة                                      112
فندق على الدرب                            131
فى القفص                                   142